الفصل الرابع عشر

الكون الواعي بين الفلسفة الإسلامية والنظريات العلمية الحديثة

وصف الفصل

يقدم هذا الفصل دراسة مقارنة عميقة بين النظريات الغربية المعاصرة والفلسفة الإسلامية حول مفهوم الوعي الكوني، مستهلاً بتحليل مستويات الوعي في المخلوقات من منظور إسلامي، من وعي الملائكة والإنسان إلى وعي الحيوان والنبات والجمادات، مع استكشاف مراتب الوعي في النفس البشرية ومكونات الإنسان الداخلية من عقل وقلب وروح. وينتقل إلى استعراض تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية من خلال ظواهر الإلهام والكشف والرؤيا الصادقة والكرامات والخوارق، مبيناً كيف تعكس هذه التجارب اتصال الإنسان بالوعي الكوني الأكبر. ثم يقدم رحلة فكرية مع تجارب المفكرين المسلمين المعاصرين في فهم الكون الواعي، من محمد إقبال وفلسفته الدينامية للحياة إلى سيد حسين نصر ومفهوم العلم المقدس، ومن طه عبد الرحمن ونظرية الائتمانية إلى مالك بدري والتفكر كمدخل للوعي الكوني، ومن محمد راتب النابلسي والكون الحي المسبح إلى علي عزت بيجوفيتش والوعي بين المادة والروح. ويستكشف الفصل النظريات الغربية المعاصرة للوعي الكوني، من نظرية الوعي الشامل (Panpsychism) ونظرية المعلومات المتكاملة إلى نظرية العقل الكمومي ونظرية الوعي البيئي، مع تحليل مفصل لحججها الفلسفية وتطبيقاتها العلمية. ويقدم مقارنة نقدية شاملة بين هذين المنظورين، مبيناً نقاط الالتقاء مثل شمولية وتدرجية الوعي والترابط الكوني، ونقاط الاختلاف في المرجعية والغاية والبعد الروحي، مع استكشاف إمكانيات التكامل والحوار المستقبلي. وأخيراً يقدم تجارب شخصية وعملية في دراسة الوعي الكوني، من ممارسات تأملية تجمع بين التقنيات الغربية والتفكر القرآني إلى ملاحظات علمية حول وعي الطبيعة والنباتات. هذا الفصل يثبت أن مفهوم الوعي الكوني يمثل نقطة التقاء فريدة بين العلم والإيمان، حيث تكتشف النظريات الغربية المعاصرة ما أشار إليه القرآن الكريم منذ قرون حول تسبيح كل شيء في الكون، بينما تضيف الرؤية الإسلامية البعد الروحي والأخلاقي والغائي الذي يجعل فهم الوعي الكوني أكثر تكاملاً وشمولية ومعنى.

مخطط الفصل

  • المبحث الأول: مستويات الوعي في المخلوقات من منظور إسلامي 648
  • المبحث الثاني: تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية 653
  • المبحث الثالث: تجارب الكون الواعي عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين 655
  • المبحث الرابع: مفهوم الوعي الكوني في الفلسفة الغربية المعاصرة 670
  • المبحث الخامس: مقارنة نقدية بين النظريات الغربية والرؤية الإسلامية 677
  • المبحث السادس: تجارب في دراسة الوعي الكوني: بين الغرب والإسلام 678
  • المبحث السابع: آفاق مستقبلية: نحو حوار عميق بين الرؤى المختلفة للوعي الكوني 680
  • خاتمة: الوعي الكوني كنقطة التقاء بين العلم والإيمان 682

عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، تأملت للمرة الأولى قول الله تعالى:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾
[الإسراء: 44]

توقفت عندها طويلاً متسائلاً: كيف تسبح الجمادات؟ هل للحجر وعي؟ هل للشجر إدراك؟ هذه الأسئلة ظلت تراودني سنوات طويلة، وكلما ازددت قراءة في التراث الإسلامي والفلسفة المعاصرة، وجدت نفسي أمام عالم مدهش من الأفكار حول ما أسميه الآن "الوعي الكوني" - ذلك المفهوم الذي يتجاوز حصر الوعي في الإنسان أو الكائنات الحية العليا، ليمتد إلى كل ذرة في الوجود.

المبحث الأول: مستويات الوعي في المخلوقات من منظور إسلامي

تراتبية الوعي في الكائنات

تقدم الرؤية الإسلامية تصوراً متدرجاً للوعي في المخلوقات، حيث تتفاوت مستويات الوعي والإدراك بين الكائنات المختلفة حسب طبيعتها ووظيفتها في نظام الخلق. يقول الله تعالى:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾
[الأنعام: 38]

وعند تأمل النصوص الشرعية، يمكن استنباط تراتبية للوعي في المخلوقات، على النحو التالي:

(أ) وعي الملائكة

الملائكة مخلوقات نورانية، خلقها الله من نور، وهم عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وقد أشار القرآن الكريم إلى علمهم وإدراكهم ووعيهم بقوله تعالى: ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا أِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]. والملائكة لهم وعي كامل بالله تعالى وبأوامره، ولهم قدرة على التفكير والتعلم، كما يظهر من حوار الملائكة مع الله تعالى حول خلق آدم ومن قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾ [البقرة: 30].

(ب) وعي الإنسان

الإنسان مخلوق مكرم، خلقه الله في أحسن تقويم، وميزه بالعقل والإرادة والقدرة على الاختيار. وقد جعله الله خليفة في الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض. يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]. والإنسان له وعي متطور، يمكنه من معرفة الله والإيمان به، ومعرفة نفسه والكون من حوله، وإدراك الحق، والخير، والجمال. ولكن هذا الوعي متفاوت بين الناس، حسب علمهم وإيمانهم وصفاء قلوبهم. يقول الله تعالى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].

(ج) وعي الحيوان

الحيوانات لها نوع من الوعي والإدراك، يمكنها من معرفة خالقها وتسبيحه، ومعرفة ما ينفعها وما يضرها. يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ﴾ [الأنعام: 38]. وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على أن الحيوانات لها نوع من الوعي والإدراك، كما في قصة ناقة النبي ﷺ التي بركت في المكان الذي بني فيه المسجد النبوي، وقصة الجمل الذي شكا إلى النبي ﷺ، وقصة الذئب الذي تكلم مع الراعي، وغيرها.

(د) وعي النبات

النباتات لها نوع من الوعي والإدراك، يمكنها من معرفة خالقها وتسبيحه، ومعرفة ما ينفعها وما يضرها. يقول الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾ [الرحمن: 6]. وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على أن النباتات لها نوع من الوعي والإدراك، كما في قصة حنين الجذع للنبي ﷺ، وقصة سلام الحجر على النبي ﷺ، وغيرها.

(هـ) وعي الجمادات

الجمادات لها نوع من الوعي والإدراك، يمكنها من معرفة خالقها وتسبيحه، والانقياد لأمره. يقول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]. وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على أن الجمادات لها نوع من الوعي والإدراك، كما في قصة تسليم الحجر على النبي ﷺ قبل البعثة، وقصة جبل أحد الذي اهتز فرحاً بالنبي ﷺ وأصحابه، وقصة المنبر الذي حن إلى النبي ﷺ، وغيرها.

مراتب الوعي في النفس البشرية

تقدم الرؤية الإسلامية تصوراً متكاملاً لمراتب الوعي في النفس البشرية، تتمثل في ثلاث مراتب رئيسية:

  • (أ) النفس الأمارة بالسوء: وهي النفس التي تميل إلى الشهوات والملذات، وتدفع صاحبها إلى المعاصي والسيئات. يقول الله تعالى على لسان امرأة العزيز: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]. وصاحب هذه النفس في مرتبة متدنية من الوعي، محجوب عن حقائق الوجود، مشغول بالشهوات والملذات، غافل عن ذكر الله وعبادته.
  • (ب) النفس اللوامة: وهي النفس التي تلوم صاحبها على التقصير والمعاصي، وتدفعه إلى التوبة والإنابة. يقول الله تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]. وصاحب هذه النفس في مرتبة متوسطة من الوعي، يتأرجح بين اليقظة والغفلة، بين الإقبال على الله والإعراض عنه، بين الطاعة والمعصية.
  • (ج) النفس المطمئنة: وهي النفس التي اطمأنت إلى الله، واستقرت على طاعته، ورضيت بقضائه وقدره. يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ﴾ [الفجر: 27-28]. وصاحب هذه النفس في مرتبة عالية من الوعي، مستيقظ القلب، حاضر مع الله، مشغول بذكره وعبادته، مستشعر لعظمته وجلاله.

العقل والقلب والروح في الرؤية الإسلامية

تقدم الرؤية الإسلامية تصوراً متكاملاً لمكونات الإنسان الداخلية، التي تشكل وعيه وإدراكه، وتتمثل في أربع مكونات رئيسية:

(أ) العقل: العقل هو آلة الفكر والنظر والاستدلال، وهو مناط التكليف، وبه يميز الإنسان بين الحق والباطل، والخير والشر. يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190]. والعقل في الرؤية الإسلامية ليس مجرد وظيفة بيولوجية للدماغ، بل هو قوة معنوية، مودعة في الإنسان، تمكنه من التفكير والتدبر والاستدلال. وهذه القوة قابلة للنمو والتطور، بالعلم والتفكر والتدبر، كما أنها قابلة للضمور والتراجع، بالجهل والغفلة والإعراض.

(ب) القلب: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) ﴾ [الشعراء]. والقلب قابل للهداية والضلال، للنور والظلمة، للحياة والموت. يقول النبي ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (متفق عليه).

(ج) الروح: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]. والروح من أمر الله، وهي من عالم الغيب، الذي لا يعلمه إلا الله. ولذلك كان علم الإنسان بها قليلاً، مقتصراً على ما ورد في النصوص الشرعية، وما يمكن استنباطه منها.

المبحث الثاني: تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية

الإلهام والكشف

من تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية ظاهرة الإلهام والكشف، التي تتمثل في تلقي المؤمن معارف وحقائق، ليس عن طريق الحواس أو الاستدلال العقلي، بل من طريق القلب والروح. يقول الله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282]. ويقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. والإلهام في الرؤية الإسلامية هو ما يلقيه الله في قلب المؤمن من معرفة وعلم وهداية، وهو نوع من الفراسة الإيمانية، التي تتحقق بقوة الإيمان وصفاء القلب. وقد قال النبي ﷺ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (رواه الترمذي). والكشف هو انكشاف بعض الحقائق الغيبية للقلب المؤمن، نتيجة لصفائه وقربه من الله تعالى. وهو ليس وحياً، ولا ينبغي اعتقاد عصمته، بل يخضع للميزان الشرعي، فما وافق الكتاب والسنة قُبل، وما خالفهما رُد.

الرؤيا الصادقة

من تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية ظاهرة الرؤيا الصادقة، التي تتمثل في رؤية المؤمن أثناء النوم أموراً صادقة، تتحقق في الواقع، أو لها تأويل صحيح. يقول النبي ﷺ: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» (متفق عليه). ويقول: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً» (متفق عليه). والرؤيا الصادقة في الرؤية الإسلامية هي ما يريه الله للمؤمن في منامه من أمور صادقة، لها تأويل في الواقع. وهي نوع من الإلهام، وجزء من أجزاء النبوة، نظراً لما فيها من إطلاع على بعض الأمور الغيبية. وتفسر الرؤيا الصادقة في ضوء الوعي الكوني بأن النفس البشرية، عندما تنفصل عن الجسد أثناء النوم، تتصل بالوعي الكوني، فتطلع على بعض الحقائق الغيبية، التي لا يمكنها الاطلاع عليها في حالة اليقظة. يقول الله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]. فالنوم هو وفاة صغرى، تنفصل فيها النفس عن الجسد انفصالاً جزئياً، مما يتيح لها الاتصال بالعالم الغيبي والاطلاع على بعض حقائقه.

الكرامات والخوارق

من تجليات الوعي الكوني في التجربة الإيمانية ظاهرة الكرامات والخوارق، التي تتمثل في خرق قوانين الطبيعة المعتادة، بإذن الله تعالى، على يد بعض الأولياء والصالحين. والكرامة في الرؤية الإسلامية هي أمر خارق للعادة، يظهره الله على يد ولي من أوليائه، تكريماً له وتأييداً. وهي ليست معجزة، لأن المعجزة خاصة بالأنبياء، وتكون مقرونة بدعوى النبوة، وتكون تحدياً للمخالفين، أما الكرامة فتظهر على يد ولي من أوليائه الصالحين، من غير دعوى للنبوة، ومن غير تحدٍ. وقد ورد ذكر بعض الكرامات في القرآن الكريم، منها كرامة مريم عليها السلام، حيث كان زكريا يجد عندها رزقاً، كما قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 37]. ومنها كرامة أصحاب الكهف، الذين لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، كما قال تعالى: ﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ﴾ [الكهف: 25]. تشكل التجربة الإيمانية لدى المسلم مجالاً فسيحًا لتجليات المعرفة الباطنية، التي تتجاوز الحواس إلى مراتب القلب والروح، فتظهر في صور من الإلهام، والرؤيا، والكرامة. وهي في مجموعها ليست مصادر للتشريع، ولكنها إشراقات روحية تدل على تفاعل المؤمن مع الغيب، وسمو إدراكه حين يتطهر قلبه ويقوى يقينه. فكل ذلك إنما هو من فيض ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾.

المبحث الثالث: تجارب الكون الواعي عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين

سأحاول في هذا المبحث استعراض مفهوم الوعي الكوني في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، ساعياً لاستكشاف كيف يقدم المفكرون المسلمون المعاصرون تفسيرات وتأويلات لفكرة الكون المسبّح الواعي، ومنطلقاً من قناعتي بأن هذا المفهوم يفتح آفاقاً رحبة لفهم ذواتنا والكون من حولنا، وعلاقة الكل بالخالق العظيم. تتنوع رؤى المفكرين المسلمين المعاصرين حول مفهوم الوعي الكوني بشكل يعكس غنى الفكر الإسلامي وتعدد توجهاته. في هذا المبحث، سأسعى لاستعراض مفهوم الوعي الكوني في الفلسفة الإسلامية المعاصرة، متتبعاً كيف قدم المفكرون المسلمون المعاصرون تفسيرات وتأويلات لفكرة الكون المسبِّح الواعي. أرى أن هذا المفهوم يفتح آفاقاً رحبة لفهم ذواتنا والكون من حولنا، والعلاقة التي تربط الكل بالخالق العظيم.

1. محمد إقبال والكون الواعي: من الوعي الفردي الى الوعي الكوني

يُعد المفكر والشاعر محمد إقبال (1877-1938م) من أبرز المفكرين المسلمين الذين قدموا رؤية عميقة للوعي الكوني في سياق معاصر. في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، يطرح إقبال فلسفة تجمع بين الروحانية الإسلامية والفكر المعاصر. ما يميز رؤية إقبال للوعي الكوني هو فهمه الدينامي للحياة. فهو يرى أن الحياة ليست مجرد ظاهرة بيولوجية، بل هي قوة خلاقة واعية تتجلى في مستويات مختلفة من الوجود. وقد طور محمد إقبال نظرية فلسفية متكاملة حول الوعي الكوني والوجود الروحي في الكون من خلال مفهومه الثوري للـ (Khudi)، والذي يُترجم إلى "الذات" أو "الأنا" أو "الوعي الذاتي". ويرى إقبال أن الوعي - أو الـ خودي - ليس مقصورًا على الإنسان فحسب، بل هو "حقيقة كونية متعددة الدرجات، تبدأ في أبسط الموجودات وتنتهي في إنسان كامل" (Muhammad Iqbal's concept of Khudi, Wikipedia). هذا التصور يجعل من الكون كله كيانًا واعيًا بدرجات متفاوتة، حيث "يوجد تدرج تصاعدي لل أنا في الكون يختلف في الدرجة بين المخلوقات". في فلسفة إقبال، الكون ليس مجرد آلة ميكانيكية، بل "هيكل من الأحداث وسلوك منظم" يعكس الوعي الإلهي (Malook, Saad. "Making Sense of Muhammad Iqbal's Metaphysics of Egohood", PhilArchive). هذا المفهوم يتجاوز النظرة المادية للكون ليقدم رؤية روحانية حيث كل شيء في الكون يحمل درجة من الوعي والروحانية.

يميز إقبال بين نوعين من الوعي في كونه الفلسفي: "الأنا الأعلى اللامحدود" (Supreme Ego) الذي يمثل الخالق جل وعلا ، و"الأنا المحدودة" (finite egos) التي تشمل جميع المخلوقات. هذه الأنا المحدودة "تنبثق من الأنا الأعلى كما ينبثق النور من الشمس" مما يخلق شبكة كونية من الوعي المترابط (Malook, Saad. "Making Sense of Muhammad Iqbal's Metaphysics of Egohood"). في قصيدته الفلسفية "أسرار الذات" (Asrar-i-Khudi) المنشورة عام 1915، يرسم إقبال مراحل تطور الوعي من "الولادة إلى الإدراك الذاتي إلى تحقيق الكمال الإنساني" (The Secrets of the Self, Wikipedia). هذه المراحل تشمل مرحلة الطاعة للقانون حيث تتعلم الذات الانضباط، ومرحلة التحكم الذاتي لتطوير القدرة على توجيه النفس، ومرحلة الخلافة الإلهية للوصول إلى دور الوكيل الإلهي في الأرض (Muhammad Iqbal's concept of Khudi, Wikipedia).

يصف إقبال رحلة الوعي بأنها تبدأ من أبسط مستويات الوجود وتتصاعد تدريجيًا. في شعره، يستخدم استعارات قوية ليوضح هذا التطور: "عندما تتعلم قطرة الماء درس الذات بقلبها، تجعل وجودها التافه لؤلؤة". في نظرة إقبال، العالم كله تسبيح دائم لله عبر حركة منظمة تنبض بالروح. هذا التسبيح ليس لغوًا، بل تعبير عن علاقة كل موجود بالوعي الكوني، فكل مستوى من الوعي هو خطوة إلى الاعتماد على الذات العليا. يعتبر إقبال أن الكون هو "الكتاب المفتوح" الذي يكشف عن آيات الله، والعلم وسيلة لاستيعاب هذه الآيات، وبه يزداد إيمان الإنسان ويتعزز وعيه الوجودي. (Muhammad Iqbal's concept of Khudi, Wikipedia).

الإنسان في فلسفة إقبال ليس مجرد كائن واعٍ بين كائنات أخرى، بل هو "بفضل الأنا الناضج، يتجاوز حدود الذات الفردية ليشترك بوعي واعٍ في عملية الخلق المستمرة". هذا يجعل من الإنسان شريكًا في الإبداع الكوني وليس مجرد مراقب سلبي. الهدف النهائي لتطور الوعي الإنساني هو الوصول إلى مرتبة "الخلافة الإلهية في الأرض" حيث يصبح الإنسان ممثلًا لله في الكون، يحمل صفاته الإبداعية والأخلاقية. (Malook, Saad. "Making Sense of Muhammad Iqbal's Metaphysics of Egohood", p. 22). تقدم فلسفة محمد إقبال رؤية ثورية للكون كوجود واعٍ متدرج، حيث يقترح رؤية يرى فيها الكون روحًا تسبّح الله عبر وعي ذاتي متدرّج، يبدأ من الذرة وينتهي في الإنسان الكامل. ما أثار إعجابي في فلسفة إقبال هو ربطه بين الوعي الفردي والوعي الكوني من خلال مفهوم "الأنا" الذي يراه متدرجاً من الذرات إلى الإنسان إلى الله تعالى. عند إقبال، الوعي ليس حكراً على الإنسان، بل هو سمة لكل موجود، يتفاوت في درجته وتعقيده. وفي تأملاتي إحدى الشخصية أمام شلال ماء متدفق، استحضرت قول إقبال: "الحركة هي جوهر الوجود، والسكون موت". ورأيت في تدفق الماء وانسيابه تعبيراً عن حياة الكون ووعيه الذي يتجلى في كل حركة وسكون. ولا أنسى تلك اللحظة التي فهمت فيها معنى تشبيه إقبال للصلاة بأنها "معراج المؤمن" - فهي اتصال الوعي الفردي بالوعي الكوني الأكبر، واستمداد للمعرفة والإلهام والقوة من مصدرها الأصيل. حين تناجي ربك في جوف الليل، فإنك تتجاوز حدود الأنا الضيقة لتتصل بالحقيقة الكلية.

سيد حسين نصر: الانسجام مع الكون

يُعتبر سيد حسين نصر (مواليد 1933) من أبرز المفكرين المعاصرين الذين طوروا رؤية شاملة حول الوعي الكوني والحاجة الملحة لإعادة الانسجام بين الإنسان والطبيعة والكون. وقد أسس نصر فلسفته البيئية على مفهوم جوهري هو "إعادة تقديس الطبيعة" (Resacralization of Nature) كحل جذري للأزمة البيئية المعاصرة (Seyyed Hossein Nasr - Wikipedia).

الوعي الكوني كأساس للوجود: في رؤية نصر الفلسفية، يُعتبر الوعي الأساس الخاص بطبيعة الكون. ففي محاضرته المؤثرة "في البدء كان الوعي" (In the Beginning Was Consciousness)، يؤكد نصر أن "جميع الكتب المقدسة للديانات المختلفة تكشف أن أصل الكون والإنسان يُحدد في كل حالة كحقيقة واعية وتشكل في الواقع الوعي المفهوم على أعلى مستوى باعتباره الوعي المطلق، الذي هو متسامٍ ومع ذلك مصدر كل وعي في المجال الكوني بما في ذلك وعينا" (In the Beginning was Consciousness by Seyyed Hossein Nasr). يوضح نصر أنه "يمكن القول بأمان أنه في العالم التقليدي كان هناك إجماع حول أولوية الوعي بالنسبة لما نسميه اليوم 'المادة'. الحقيقة التي تُرى من قبل جميع هذه الأديان والفلسفات التقليدية كأصل للأشياء زمنياً ومبدئياً هي أيضاً الوعي الأسمى" (المرجع السابق).

تدرج الوعي في الكون: تقوم رؤية نصر على أن الوعي ليس حكراً على الإنسان، بل يتدرج عبر جميع مستويات الوجود الكوني. ففي الكونيات التقليدية، "الوعي المحض، هو أيضاً الوجود المحض، يبقى متسامياً إزاء تجلياته، عبر مستويات مختلفة من التسلسل الهرمي الكوني ليصل إلى العالم المادي" هذا التصور يقدم كوناً حياً وواعياً حيث "جميع الكائنات في الكون تمتلك درجة من الوعي تتناسب مع حالتها الوجودية" (المرجع السابق).

الأزمة الروحانية والبيئية في العصر الحديث: يحدد نصر الجذور العميقة للأزمة البيئية في كتابه الرائد "لقاء الإنسان والطبيعة: الأزمة الروحانية للإنسان الحديث" (The Encounter of Man and Nature: The Spiritual Crisis of Modern Man, 1968). فقد "أدى إنكار سيادة وأولوية الوعي واستبدال الاختزال المادي مكانه إلى منح البشر هيمنة أكبر على الطبيعة وبعض وسائل الراحة الأرضية... لكن الأهم من ذلك كله أنه دمر العلاقة المتناغمة ليس فقط بين الإنسان والعالم الروحاني، بل أيضاً بين الإنسان والطبيعة" (In the Beginning was Consciousness). يشخص نصر هذه الأزمة بقوله: "إن إنكار أولوية الوعي أدى أيضاً بشكل مباشر وغير مباشر إلى إزالة القداسة عن الطبيعة واختزال الطبيعة إلى 'شيء' محض، إلى سلعة يستخدمها البشر كما يرون ضرورياً. تحولت رعاية الطبيعة إلى اغتصابها حيث أصبحت النظرة السائدة للطبيعة أكثر عدم نفاذية لصفاتها الروحانية وغموضها وانسجامها الفطري وجمالها" (المرجع السابق).

إعادة تقديس الطبيعة كحل جذري: يضع نصر مفهوم "إعادة تقديس الطبيعة" في قلب حلوله للأزمة البيئية (Seyyed Hossein Nasr - Wikipedia). هذا المفهوم لا يقتصر على النظرة الرومانسية للطبيعة، بل يتطلب تحولاً جذرياً في الوعي الإنساني نحو إدراك القداسة الحقيقية للعالم الطبيعي. في رؤية نصر، تتطلب إعادة تقديس الطبيعة العودة إلى ما يسميه "العلم المقدس" (Scientia Sacra). فالعلم المقدس "لا يفصل أبداً الطبيعة عن العلاقة الإنسانية الحميمة، لأن الطبيعة تُرى مقدسة فيه" (The Eco-Philosophy of Seyyed Hossein Nasr). وهذا يتناقض مع العلم الحديث الذي يفصل بين العقل والروح، بينما نصر يرى أن المعرفة الحقيقية تحتاج للاثنين معاً.

الانسجام الكوني والوحدة الوجودية: يؤكد نصر على ضرورة إدراك الإنسان لموقعه الحقيقي في الكون كجزء لا يتجزأ من النسيج الكوني الواعي. ففي نظره، "جميع الأشياء مخلوقة من قبل نفس الخالق، لذلك كل شيء مرتبط نسبياً مع الآخر. بهذه الطريقة، إذا فكر البشر في ذلك، سيجدون بسهولة تعلقهم العميق مع كل مكون من مكونات الطبيعة" (The Eco-Philosophy of Seyyed Hossein Nasr). هذا الفهم يقود إلى ما يسميه نصر "الوحدة المتسامية للوجود" (Transcendent Unity of Being)، حيث "هناك حاجة ملحة لفهم روحاني أعمق يمكن من خلاله للبشر أن يتخيلوا أنفسهم في وحدة متسامية للوجود مع جميع مخلوقات الله الأخرى، مما يحفزهم في النهاية ليكونوا أكثر تسامحاً مع الحيوانات غير البشرية وللاعتراف بحقوقها في العيش على الأرض معهم" (The Eco-Philosophy of Seyyed Hossein Nasr).

الطبيعة كتجلٍ إلهي: في الرؤية الكونية لنصر، الطبيعة ليست مجرد مجموعة من الأشياء المادية، بل هي "انعكاس للحقيقة الإلهية" (Nature as a Reflection of the Divine). هذا المفهوم يحول نظرة الإنسان للعالم الطبيعي من نظرة استغلالية إلى نظرة تبجيلية. فإذا كانت "الطبيعة تعمل كانعكاس للحقيقة الإلهية، فلا يوجد مجال لاستخفاف أي مادة مكونة للطبيعة، حتى لو كانت عنصراً لاأحيائياً من العالم الطبيعي" (The Eco-Philosophy of Seyyed Hossein Nasr).

استعادة الوعي الكوني كضرورة وجودية: يؤكد نصر أن استعادة الوعي الكوني ليست مجرد خيار فلسفي، بل ضرورة وجودية لبقاء الإنسان والطبيعة معاً. ففي تحليله العميق، "إذا تم تأكيد وقبول حقيقة أولوية الوعي كونياً ووجودياً وكذلك ميكروكونياً على نطاق واسع مرة أخرى في العالم المعاصر، فإن الحياة البشرية ستصبح مختلفة نوعياً وستتم إزالة العديد من العقبات التي تواجه البشرية اليوم" (In the Beginning was Consciousness). ويضيف نصر أنه "إذا كان البشر لا يعيشون تحت المستوى الإنساني، بل يحققون الإمكانية الكاملة لكونهم بشراً، فإنهم سيدركون بديهياً حقيقة تأكيد أولوية الوعي. سيرتفع وعيهم إلى مستوى حيث سيعرفون من خلال الإدراك المباشر أن الحقيقة الكونية لا يمكن أن يكونا سوى الوعي الأسمى الذي هو أيضاً الوجود المحض" (المرجع السابق).

الحل الروحاني للأزمة البيئية: في جوهر فلسفة نصر، يكمن الحل الحقيقي للأزمة البيئية في "استعادة علاقة الإنسان الروحانية بالخلق" من خلال إعادة تقديس الطبيعة. هذا الحل يتطلب تحولاً جذرياً في الوعي الإنساني من النظرة المادية الاختزالية إلى الرؤية الروحانية الشاملة التي ترى في الطبيعة تجلياً للوعي الإلهي الأسمى. يخلص نصر إلى أن "حل الأزمة البيئية يمكن أن يحدث فقط عندما يتم شفاء المرض الروحاني الحديث وهناك إعادة اكتشاف لعالم الروح" (The Eco-Philosophy of Seyyed Hossein Nasr). هذه الرؤية تقدم طريقاً للخروج من الأزمة البيئية المعاصرة من خلال استعادة الانسجام الكوني والوعي بالترابط العميق بين جميع مستويات الوجود في الكون الواعي. وكذلك أن الأزمة البيئية "هي فقط تجسيد لأزمة داخلية … لا يمكن حلها بدون ولادة روحية جديدة". ويؤكد أيضًا أن الطبيعة كانت دومًا تعتبر كيانًا مقدسًا في التصورات التقليدية وأن الإنسان لا يستطيع تدمير الطبيعة دون أن يدمر نفسه. ( المرجع السابق). ما أثارني في فكر نصر هو تأكيده على أن الأزمة البيئية المعاصرة هي في جوهرها أزمة روحية، ناتجة عن فقدان الإنسان للرؤية المقدسة للطبيعة.

فضل الرحمن والوجود الواعي في الكون

يُعتبر فضل الرحمن (1919-1988) من أهم المفسرين المعاصرين للقرآن الكريم، وقد قدم في كتابه الرائد "الموضوعات الرئيسية في القرآن" (Major Themes of the Quran) رؤية فلسفية عميقة حول الوعي الكوني والوجود الواعي في الكون (Major Themes of the Qur'ān by Fazlur Rahman). ولد رحمن في باكستان وتلقى تعليمه في جامعة أكسفورد، ثم أصبح أستاذاً للفكر الإسلامي في جامعة شيكاغو، حيث طور منهجاً تجديدياً في تفسير القرآن يجمع بين الأصالة والمعاصرة. في تحليل فضل الرحمن للرؤية القرآنية للكون، يؤكد أن "الطبيعة كلها بنية واحدة متماسكة وثابتة، لا توجد فيها فجوات أو كسور أو اختلالات. إنها تعمل بقوانينها الخاصة التي أودعها الله فيها، وهي لذلك مستقلة؛ لكنها ليست مستبدة، لأنها في ذاتها ليس لديها مبرر لوجودها ولا يمكنها أن تفسر نفسها" (Major Themes of the Qur'ān, الفصل الأول). هذا التصور يقدم كوناً له استقلالية نسبية مع بقائه معتمداً على مصدره الإلهي.

من أهم إسهامات فضل الرحمان في فهم الوعي الكوني تفسيره لآيات تسبيح الكون. يؤكد أن "القرآن يعتبر الكون كله 'مسلماً'، لأن كل شيء فيه (باستثناء الإنسان، الذي قد يصبح 'مسلماً' أو لا يصبح) قد 'استسلم لإرادة الله' (آل عمران:83)، وكل شيء يسبح الله (الحديد:1؛ الحشر:1؛ الصف:1؛ وأيضاً الإسراء:44؛ النور:41، إلخ)" (Major Themes of the Qur'ān, الفصل الرابع). هذا التسبيح الكوني ليس مجرد استعارة بلاغية، بل يعكس حقيقة وجودية عميقة. فكما يوضح رحمن: "كل الطبيعة تطيع الله بـ'إرادة تلقائية' باستثناء الإنسان، الذي لديه الفرصة بالتساوي للطاعة أو العصيان" هذا يعني أن الوعي والطاعة متأصلان في بنية الكون نفسه.

الوعي الإنساني والانسجام الكوني: بالنسبة للإنسان في هذا النظام الكوني الواعي، يرى رحمن أن التحدي الأساسي هو "الانخراط المعنوي مع النظام الكوني، وهو للبشر ليس مجرد أمر فكري بل وجودي: 'اكتشاف' الخالق وتطوير إدراك معين من خلال 'رفع الحجاب' عن العقل" (Major Themes of the Qur'ān). ويؤكد أن الدعوة القرآنية المتكررة "أفلا تتفكرون؟... أفلا تتذكرون؟" تُظهر أن على البشر إعادة تنسيق أنفسهم بوعي مع النظام الكوني، واكتشاف دورهم في النمط الأكبر للتسبيح الإلهي.

التسبيح الكوني الشامل: يؤكد فضل الرحمن مراراً وتكراراً أن "السماوات السبع والأرض وما فيهن يسبحن الله (الإسراء:44؛ وأيضاً الحديد:1؛ الحشر:1؛ الصف:1؛ الرعد:15؛ النحل:49؛ الحج:18؛ الرحمن:6؛ الأعراف:206؛ الأنبياء:19)" (Major Themes of the Qur'ān). هذا التسبيح الشامل يعكس وعياً كونياً يتخلل في رؤية فضل الرحمن، يقدم القرآن الكون كـ"وجود واعي" حيث كل عنصر يؤدي دوره في التسبيح الإلهي. هذا الوعي الكوني ينعكس في "الاستقلالية والانتظام وتسبيح كل الخلق غير الإنساني، الذي يعمل كمشاركين لا يكلون في حمد الله، بينما تحدي الإنسان هو الانضمام إلى هذه الجوقة الكونية من خلال اختيار الاستسلام بحرية" (Major Themes of the Qur'ān). هكذا، يفسر فضل الرحمن القرآن كتعليم لكون "يسبح" ويعيش في استسلام واعٍ مستمر لله، حيث كل الطبيعة باستثناء الإنسان والجن تعمل بـ"إرادة تلقائية" أو "إرادة تطوعية" كآيات وتذكيرات للعقل والقلب البشري المتأمل. النظام الكوني هو حقيقة مادية وميتافيزيقية في آن واحد - قياس سلس تحت حكمة الله ورحمته، منخرط باستمرار في التسبيح، ويعمل كنموذج للوعي الإنساني والمسؤولية الأخلاقية.

طه عبد الرحمن: الوعي الائتماني

يُعد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن (مواليد 1944) من أبرز المفكرين المعاصرين الذين سعوا لتأسيس فلسفة إسلامية أصيلة تواجه تحديات العصر، وقد نجح في تطوير مشروع فكري متكامل يُعرف بـ"الفلسفة الائتمانية" التي تقدم بديلاً فلسفياً للحداثة الغربية من منظور إسلامي معاصر. نشأ في بيئة مغربية تجمع بين التراث الإسلامي والانفتاح على الثقافة الحديثة، مما أتاح له تطوير رؤية فلسفية تتعامل مع إشكاليات العصر من موقع إسلامي أصيل. (عبد الرحمن، طه. تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، 2001). تشكل الائتمانية في فكر طه عبد الرحمن نظرية أخلاقية شاملة تقوم على مفهوم "الأمانة" كمبدأ أساسي يحكم علاقة الإنسان بالله والكون والآخرين. تستمد هذه النظرية مقوماتها من النصوص التأسيسية للتراث الإسلامي، وتتضمن ثلاث فلسفات متكاملة: فلسفة الشهادة التي تؤسس للوعي بالحق، وفلسفة الأمانة التي تقرر المسؤولية الأخلاقية، وفلسفة الحكمة التي توجه العمل نحو الصلاح والإصلاح. (عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، 2000).

تقوم الفلسفة الائتمانية على مرتكزات منهجية أساسية تميزها عن المدارس الفلسفية الأخرى. يتمثل المرتكز الأول في مبدأ الوحدة الذي يرفض الفصل التعسفي بين الدين والأخلاق والعقل، والثاني في مبدأ الأمانة الذي يجعل الإنسان مؤتمناً على الكون ومسؤولاً عن عمارته، والثالث في مبدأ التزكية الذي يهدف إلى تطهير النفس وتهذيبها روحياً وأخلاقياً، والرابع في مبدأ التكامل الذي يحقق التوازن بين العقل والقلب، بين الظاهر والباطن. (عبد الرحمن، طه. روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، المركز الثقافي العربي، 2012). يطور طه عبد الرحمن مفهوماً متميزاً للوعي الكوني ضمن إطار نظريته الائتمانية، حيث يربط هذا الوعي بالمسؤولية الأخلاقية للإنسان تجاه الكون. في هذا التصور، يتجاوز الوعي الكوني كونه مجرد إدراك معرفي للكون ليصبح وعياً مسؤولاً يرى في الكون شريكاً في المسؤولية الأخلاقية وكياناً أخلاقياً يسبح بحمد الله. هذا المفهوم يتخلل مشروع طه الفلسفي بأكمله، حيث يرى أن الكون ليس مجرد مادة صماء، بل كيان مليء بالآيات والعلامات التي تشير إلى الخالق وتستدعي من الإنسان الوعي بمسؤوليته الكونية. (عبد الرحمن، طه. العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، 1989).

يؤسس طه عبد الرحمن لتصور جديد للعلاقة بين الإنسان والكون يتجاوز النموذج الحداثي القائم على السيطرة والاستغلال. في هذا التصور، الإنسان ليس سيداً للكون كما تزعم الفلسفة الحديثة، بل هو مؤتمن عليه، والأمانة تقتضي الرفق بالطبيعة والإحسان إليها، لا السيطرة عليها واستغلالها. هذا الائتمان يتطلب من الإنسان تطوير وعي عميق بالكون وبالمسؤولية الأخلاقية تجاهه، وعي يتجاوز المنطق النفعي إلى المنطق الأخلاقي القائم على الاحترام والتقدير. (عبد الرحمن، طه. الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، 2002). تشمل مؤلفات طه عبد الرحمن الأساسية عدة سلاسل فكرية تعكس تطور مشروعه الفلسفي. تأتي في المقدمة سلسلة نقد الحداثة التي تضم خمسة كتب أبرزها "روح الحداثة" و"بؤس الدهرانية" و"سؤال الأخلاق"، وسلسلة الأسئلة التي تتكون من أربعة كتب منها "سؤال العمل" و"سؤال المنهج" و"سؤال السيرة الفلسفية"، إضافة إلى سلسلة فقه الفلسفة وسلسلة دين الحياء، والمفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية في جزأين. (الببليوغرافيا الكاملة لأعمال طه عبد الرحمن، دار توبقال للنشر).

طور طه عبد الرحمن مفهوم "الدهرانية" كمصطلح نقدي لوصف النزعة العلمانية المتطرفة التي تفصل بين الدين والحياة فصلاً تعسفياً. يعتبر هذا المفهوم إحدى صور تشويه العلاقة الطبيعية بين الإيمان والأخلاق، ويرى فيه تعبيراً عن أزمة الحداثة الغربية التي أفقدت الإنسان البوصلة الأخلاقية والروحية. في مقابل الدهرانية، يقدم طه مفهوم الائتمانية كبديل حضاري يحقق التوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة. (عبد الرحمن، طه. بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2014). في رؤية طه عبد الرحمن الفلسفية، لا يوجد تعارض حقيقي بين العقل والقلب، بل تكامل وتناغم ضروريان لتحقيق المعرفة الحقة. العقل المسدد بالوحي والمنور بالتجربة الروحية هو وحده القادر على إدراك حقائق الوجود الكبرى والوصول إلى الحكمة الحقيقية. (عبد الرحمن، طه. المنظور الائتماني لمفاهيم الفلسفة ومعاني الإيمان، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2023).

تقدم فلسفة طه عبد الرحمن رؤية متميزة للوعي الكوني الأخلاقي تؤكد على مسؤولية الإنسان تجاه الكون كأمانة إلهية. هذه الرؤية لها انعكاسات عملية على الممارسة العلمية والحياتية، حيث لا نعود نرى الكون مجرد موضوع للدراسة والاستغلال، بل شريكاً في الوجود يستحق الاحترام والرعاية. عندما نتأمل الخلية تحت المجهر أو المجرة عبر التلسكوب، نستحضر أن المادة والروح وجهان لحقيقة واحدة، وأن الكون كائن حي يشهد بوحدانية خالقه، مما يولد شعوراً عميقاً بالمسؤولية الأخلاقية تجاه كل مظاهر الحياة. (عبد الرحمن، طه. السيرة النبوية والتأسيس الأخلاقي، مركز نهوض للدراسات والبحوث، 2024). يُعتبر طه عبد الرحمن من أهم الفلاسفة المسلمين المعاصرين الذين نجحوا في تطوير نظرية فلسفية متكاملة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. فلسفته الائتمانية ومفهومه للوعي الكوني يقدمان إسهاماً مهماً في الحوار الفلسفي العالمي، ويؤسسان لرؤية إسلامية معاصرة قادرة على مواجهة تحديات العصر دون التفريط في الأصول أو الانغلاق عن التطور. إن مشروع طه الفلسفي المستمر يلهم جيلاً جديداً من المفكرين والباحثين الذين يسعون لتطوير فكر إسلامي أصيل ومعاصر قادر على الإسهام في بناء حضارة إنسانية متوازنة. (مراجعات نقدية لأعمال طه عبد الرحمن، مجلة الاجتهاد، العدد 112، 2021).

محمد راتب النابلسي: الكون الحي المسبح

يقدم المفكر والداعية السوري محمد راتب النابلسي (مواليد 1938م) فهماً معاصراً للوعي الكوني من منظور علمي وإيماني. في موسوعته "الإعجاز العلمي في القرآن والسنة"، يربط النابلسي بين المكتشفات العلمية الحديثة ومفهوم التسبيح الكوني. يُعد الدكتور محمد راتب عبد الغني النابلسي من أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين قدموا رؤية متميزة للكون باعتباره كياناً حياً مسبحاً بحمد الله، مقدماً منظوراً إسلامياً يجمع بين الإعجاز العلمي والتفسير الديني للوجود. وُلد النابلسي في دمشق يوم 29 يناير 1938 لأسرة علمية وصفها بأن "حظها من المال قليل ومن العلم كثير"، حيث كان والده من علماء دمشق وترك له مكتبة ضخمة أثرت في تكوينه الفكري المبكر.

تتأسس أفكار النابلسي حول "الكون الحي المسبح" على فهمه العميق للآية القرآنية "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ"، حيث يرى أن كل مكونات الكون تسبح الله بطريقة لا ندركها، مما يجعل الكون كياناً حياً واعياً يشهد بوحدانية خالقه (https://nabulsi.com/web/article/1210). يؤكد النابلسي أن التسبيح في مفهومه الواسع يشمل كل ما يقرب الإنسان من الله، فالحديث عن المجرات دون ذكر اسم الله يُعتبر تسبيحاً، وقراءة كتاب في الفقه وتعظيم الأمر الإلهي تسبيح، وأي ذكر لآيات الله أو شرح لقرآنه يندرج تحت مفهوم التسبيح الشامل.

يقدم النابلسي منهجية علمية في تدبر الكون تقوم على التفكر في المخلوقات كأقصر طريق إلى معرفة الله، مستشهداً بالحديث النبوي "تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا"، ويعتبر أن التفكر في خلق السماوات والأرض يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام عظمة الله (https://nabulsi.com/web/article/5257). من الأمثلة العلمية التي يستخدمها النابلسي لتوضيح عظمة الكون المسبح، حقيقة أن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرة، وأن المسافة بينهما تبلغ مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر، وأن نجم قلب العقرب في برج العقرب يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، مما يدل على عظمة الخالق وإبداعه في الخلق.

يمتد مفهوم الكون الحي المسبح عند النابلسي إلى دراسة الإعجاز العلمي في خلق الإنسان، حيث يشرح كيف أن الدماغ البشري يحتوي على 140 مليار خلية، منها 14 مليار خلية قشرية تشمل المحاكمة والذاكرة والتفكر والاستنتاج، والذاكرة التي تحتوي على سبعين مليار صورة في حجم لا يتجاوز العدسة (https://nabulsi.com/web/article/1210). تتجلى رؤية النابلسي للكون الحي المسبح في تفسيره لمراحل خلق الإنسان، خاصة عند تناوله لآية "خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ"، حيث يشرح كيف تتحد النطفة مع البويضة لتحقق "واحدة من أكبر المعجزات على وجه الأرض"، إذ تحتوي هذه الخلية الواحدة على جميع المعلومات الوراثية للإنسان الذي لم يولد بعد، من خصائصه الفيزيائية إلى تفاصيل خلاياه وأعضائه الداخلية، وحتى خصائصه في مراحل عمرية مختلفة (https://nabulsi.com/web/article/5257).

من أبرز إسهامات النابلسي الفكرية موسوعاته العلمية، منها تفسير النابلسي للقرآن الكريم في عشرة مجلدات، وموسوعة أسماء الله الحسنى في أربعة مجلدات، وموسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في مجلدين، إضافة إلى مؤلفات أخرى مثل "نظرات في الإسلام" و"تأملات في الإسلام" و"كلمات مضيئة ولقاءات مثمرة مع الشعراوي" (https://nabulsi.com/story/Una-mirada-general-a-la-vida-del-Dr.-Muhammed-Nabulsi11601). تُرجمت بعض أعماله إلى اللغة الإنجليزية، مما وسع من دائرة تأثيرها الفكري. في إحدى محاضراته المسجلة التي استمعت إليها، يشرح النابلسي كيف أن الكون بكل مكوناته يخضع للقوانين الإلهية ويسير وفق نظام دقيق، وهذا الخضوع هو نوع من التسبيح والعبادة. هذا الطرح جعلني أتأمل في الانتظام الدقيق للكواكب والنجوم، وكيف أن هذا الانتظام هو تعبير عن تسبيح صامت لخالق الكون.

علي عزت بيجوفيتش: الوعي الكوني بين المادة والروح

يُعد علي عزت بيجوفيتش (1925-2003) من أبرز المفكرين المسلمين المعاصرين الذين طوروا رؤية فلسفية متميزة حول طبيعة الوعي الإنساني وعلاقته بالكون، جامعاً بين الخبرة السياسية والعمق النظري في مواجهة التيارات الفلسفية المادية والوجودية الغربية. وُلد بيجوفيتش في البوسنة ونشأ في بيئة إسلامية متعددة الثقافات، مما أكسبه فهماً عميقاً للتفاعل بين الحضارات المختلفة، وقد تجلى هذا الفهم في كتابه الأساسي "Islam Between East and West" الذي يُعتبر من أهم الأعمال الفلسفية الإسلامية في القرن العشرين.

تقوم نظرة بيجوفيتش حول الوعي على مفهوم الثنائية الإنسانية الذي يُعتبر محورياً في فلسفته (Izetbegović, Islam Between East and West, chapters 1-3). يطرح بيجوفيتش تصوراً للإنسان كائناً مزدوج الطبيعة، يحمل في تكوينه بُعداً مادياً يربطه بالطبيعة وقوانينها الفيزيائية والبيولوجية، وبُعداً روحياً يسمو به نحو عوالم المعنى والقيم الأخلاقية والجمالية. هذه الثنائية ليست تناقضاً يحتاج إلى حل بإلغاء أحد طرفيه، بل هي حقيقة أساسية في التكوين الإنساني تتطلب توازناً وتكاملاً. من خلال هذا المنظور، ينتقد بيجوفيتش النظريات الاختزالية التي تحاول تفسير الإنسان من خلال بعد واحد فقط، سواء كان مادياً محضاً أو روحانياً منقطعاً عن الواقع.

يطور بيجوفيتش مفهوماً للحرية يتجاوز التعريفات السلبية التقليدية كغياب القيود، ليقدم تصوراً إيجابياً للحرية كقدرة على الاختيار الواعي وتحمل المسؤولية الأخلاقية. هذه الحرية هي ما تجعل الإنسان قادراً على النقد والإبداع والتجاوز، وهي ما تميز الوعي الإنساني عن أنماط السلوك الحتمية في الطبيعة. بدون هذه الحرية، يفقد الحديث عن الوعي والأخلاق والمسؤولية معناه. في معالجته للعلاقة بين الوعي الفردي والوعي الكوني، يطرح بيجوفيتش رؤية تتجاوز الثنائيات التقليدية بين الذات والموضوع (Izetbegović, Islam Between East and West, chapter 9). يرى أن الوعي الإنساني المتطور لا يقف عند حدود الذات الفردية، بل يتجه نحو إدراك الحقائق الكلية والاتصال بالنظام الكوني الأوسع. هذا الاتصال لا يتم فقط من خلال المعرفة العقلية أو التجربة الحسية، بل أيضاً من خلال البعد الروحي الذي يمكن الإنسان من تجاوز حدود الفردية والمشاركة في الوعي الكوني الشامل.

تلعب التجربة الدينية دوراً محورياً في فهم بيجوفيتش للوعي الكوني، حيث يعتبرها أعلى أشكال الوعي الإنساني وأكثرها شمولية (Izetbegović, Islam Between East and West, chapters 10-11). يؤكد بيجوفيتش أن الإسلام يقدم نموذجاً متميزاً للوعي الكوني من خلال مبدأ التوحيد الذي يوحد بين جميع أبعاد الوجود (Izetbegović, Islam Between East and West, chapters 12-13). على عكس التقسيمات الثنائية الحادة بين المقدس والمدنس، أو الروحي والمادي، يقدم الإسلام رؤية موحدة للوجود تشمل جميع مستويات الحياة الإنسانية. هذا التوحيد يمكن المؤمن من تطوير وعي كوني شامل يربط بين العبادة والعمل، بين التأمل والفعل، بين الاهتمام بالآخرة والانخراط في الدنيا.

يقترح بيجوفيتش أن المخرج من أزمة الوعي المعاصر يكمن في تطوير نموذج متكامل للوعي يجمع بين مكاسب التقدم العلمي والتقني والحكمة الروحية المتراكمة (Izetbegović, Islam Between East and West, conclusion). هذا النموذج يقوم على الاعتراف بالطبيعة المركبة للإنسان وضرورة تلبية احتياجاته المادية والروحية معاً، دون تضحية بأحدهما لصالح الآخر. كما يقوم على فهم عميق لوحدة الوجود وترابط الإنسان مع الكون، مما يفتح أمامه إمكانيات جديدة للنمو الحضاري والتطور الروحي. تكمن أهمية إسهام بيجوفيتش في الفكر الإسلامي المعاصر في تقديمه رؤية فلسفية متطورة تتعامل مع إشكاليات العصر الحديث دون التخلي عن الأسس الإسلامية الثابتة. نظريته حول الوعي الكوني تقدم إطاراً مفاهيمياً يمكن من خلاله فهم التجربة الإنسانية المعاصرة وتحدياتها، كما تفتح آفاقاً جديدة لتطوير علوم إنسانية إسلامية قادرة على المساهمة في حل مشكلات الحضارة المعاصرة. إن تجربة بيجوفيتش الفريدة في الجمع بين الفكر والعمل تجعل من فلسفته نموذجاً ملهماً للمفكرين المسلمين الذين يسعون لتطوير فكر إسلامي أصيل ومعاصر قادر على الإسهام في بناء حضارة إنسانية متوازنة.

نحو فهم متكامل للوعي الكوني في الفكر الإسلامي المعاصر

تتميز تجارب المفكرين المسلمين المعاصرين مع مفهوم الوعي الكوني بالتنوع والعمق، مما يعكس ثراء الفكر الإسلامي وقدرته على التفاعل مع القضايا الفلسفية والعلمية المعاصرة. يمكن أن نستخلص من هذه التجارب عدة نقاط محورية:

  • التأصيل القرآني: تنطلق معظم رؤى المفكرين المسلمين حول الوعي الكوني من الآيات القرآنية التي تتحدث عن تسبيح الكائنات، مما يمنح هذه الرؤى عمقاً إيمانياً وأصالة دينية.
  • التكامل المعرفي: تجمع هذه الرؤى بين المعرفة الدينية والفلسفية والعلمية، مما يعكس شمولية المنظور الإسلامي للوجود.
  • البعد الأخلاقي: يربط معظم المفكرين المسلمين بين الوعي الكوني والمسؤولية الأخلاقية للإنسان تجاه الكون، مما يجعل من هذا المفهوم أساساً لأخلاقيات بيئية متكاملة.
  • الوسطية والتوازن: تتميز هذه الرؤى بالوسطية والتوازن بين الروحانية والعقلانية، وبين الذاتية والموضوعية، مما يجعلها قادرة على التفاعل مع مختلف التيارات الفكرية المعاصرة.

في رحلتي البحثية مع هذا الموضوع، وجدت أن مفهوم الوعي الكوني يفتح آفاقاً واسعة للتأمل والبحث، ويقدم إطاراً متكاملاً لفهم علاقتنا بالكون وبالخالق. إنه يدعونا إلى تجاوز النظرة المادية للوجود، دون الوقوع في الخيال أو الغلو، ويحثنا على إعادة اكتشاف مكانتنا في الكون كخلفاء لله في الأرض، مسؤولين عن حمايته والانسجام مع تسبيحه. كما يمكن القول إن هذا المفهوم يقدم إسهاماً إسلامياً أصيلاً في الحوار العالمي حول قضايا الوعي والبيئة والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويمكن أن يشكل أساساً لحضارة إنسانية جديدة، تجمع بين التقدم المادي والسمو الروحي، وتحقق التوازن بين حاجات الإنسان وحقوق الكون.

المبحث الرابع: مفهوم الوعي الكوني في الفلسفة الغربية المعاصرة

رحلتي مع فلسفة الوعي الغربية: حكاية كتاب... ولحظة إدراك

بصراحة، لم أتوقع أن أجد نفسي في ذلك المكان. مكتبة ضخمة في وسط المدينة، والناس يتحركون حولي كالنمل. كنت أبحث عن شيء... لا أعرف ماذا بالضبط. وفجأة! وجدت أمامي كتاب "العقل الواعي" لديفيد تشالمرز. عجيب... كيف ظهر أمامي هكذا؟ التقطته، وبدأت أقرأ عشوائياً. أخذت الكتاب إلى ركن هادئ، وبدأت أتصفحه. توقفت عند صفحة كتب فيها تشالمرز عبارته الشهيرة عن "المشكلة الصعبة للوعي" (The Hard Problem of Consciousness): توقفت عند جملة واحدة غيّرت كل شيء: "كيف وعلى أي نحو تؤدي العمليات الفيزيائية في الدماغ إلى التجارب الذاتية؟" قرأتها مرة. مرتين. ثلاث مرات. هذا الرجل يطرح سؤالاً كان يراودني منذ سنوات! لكن... ألسنا نحن المسلمين نملك الإجابة منذ قرون؟

هذا السؤال فتح أمامي عالماً من الأفكار الفلسفية المعاصرة حول طبيعة الوعي، وكيف يمكن فهم انتشاره في الكون. أثار اهتمامي أن تعود الفلسفة الغربية - التي طالما اختزلت الوعي في إطار مادي محدود - إلى التساؤل عما إذا كان الوعي منتشراً في جميع مكونات الكون، وهو ما يقترب من الرؤية الإسلامية التي تؤمن بأن "كل شيء يسبح بحمد الله". قال تعالى : ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ [الإسراء: 44].

في هذا المبحث، سأستعرض أهم النظريات الغربية المعاصرة حول الوعي الكوني من وجهة نظر فلسفية متأملاً في نقاط التقائها واختلافها مع الرؤية الإسلامية، ومستفيداً من تجاربي الشخصية في دراسة هذه النظريات رغم تطرقنا لها في أبواب سابقة من وجهات نظر علمية.

نظرية الوعي الشامل (Panpsychism): الوعي كخاصية أساسية للواقع

جذور النظرية وتطورها: شاهدت محاضرة عن مؤتمر حول فلسفة العقل، وكان المتحدث الرئيسي هو الفيلسوف غالين ستراوسون (Galen Strawson)، أحد أبرز المدافعين المعاصرين عن نظرية الوعي الشامل. يقول ستراوسون: "لا يمكنك الحصول على الوعي من اللاوعي. هذا، إذا جاز التعبير، التزام أساسي. إذا جاء شخص وقال ببساطة 'حسناً، لماذا لا؟'، لا أعرف إن كان هناك حجة يمكن تقديمها ضد ذلك. لكننا لا نلجأ إلى هذا المفهوم من الظهور الجذري مثل ظهور الوعي من اللاوعي المطلق. نحن لا نلجأ إلى ذلك في أي مكان آخر في العلم. وكما يقال في الأوساط الحوارية "إن وجود الوعي في عالم مادي بحت أشبه بظهور الأرانب من قبعة الساحر - إنه مستحيل منطقياً. لذا، لابد أن الوعي خاصية أساسية للمادة نفسها".

نظرية الوعي الشامل ليست حديثة تماماً، فلها جذور في فلسفات قديمة، من طاليس وأفلاطون في اليونان إلى سبينوزا ولايبنتز في أوروبا الحديثة. لكنها شهدت إحياءً ملحوظاً في العقود الأخيرة، خاصة مع أعمال فلاسفة مثل توماس ناجل وديفيد تشالمرز وغالين ستراوسون. يقول توماس ناجل في «إن ذاتية الوعي هي سمة لا يمكن اختزالها من الواقع، ومن الخطأ تجاهلها: فهي تستحق مكانًا أساسيًا في أي تصور عقلاني للعالم، إلى جوار المادة، والطاقة، والزمن، والمكان، والأعداد.» ( توماس ناجل، The View From Nowhere). يجد ناجل أن الخبرة الذاتية (الوعي) ليست مجرد نتاج ثانوي للمادة أو الدماغ، بل هي جزء أساسي لا غنى عنه في الواقع و يرى أن أي رؤية للعالم تهمها الموضوعية يجب أن تُعطي للوعي مكانًا مركزيًا إلى جانب العناصر الفيزيائية المعروفة مثل المادة والطاقة والمكان والزمن والأعداد. يقترح أن إنكار هذا البُعد الذاتي للوعي يجعل رؤيتنا للعالم ناقصة، وحتى أفعالنا في البحث العلمي تصبح غير مكتملة.

الحجج الفلسفية للوعي الشامل: خلال قراءاتي لبعض كلام الفلاسفة المدافعين عن نظرية الوعي الشامل، وجدت أنهم يستندون إلى عدة حجج فلسفية قوية:

  • حجة التطور: إذا كان الوعي قد ظهر من المادة التي لا وعي لها، فهذا يعني أنه ظهر من العدم، وهو ما يتعارض مع مبدأ "من العدم لا يأتي شيء". من الأسهل افتراض أن الوعي موجود بشكل بدائي في المادة نفسها، وأنه تطور وتعقد مع تطور المادة وتعقدها.
  • المشكلة الصعبة للوعي: طرحها تشالمرز وهي: كيف تنشأ التجربة الذاتية من العمليات الفيزيائية؟ ويرى أن نظرية الوعي الشامل تقدم حلاً لهذه المشكلة، بافتراض أن الوعي خاصية أساسية للمادة، وليس نتيجة ثانوية لها. وقد قرأت دفاع تشالمرز نفسه في مؤتمر بمدينة توسان الأمريكية عندما سؤل: "ألا تتعارض فكرة الوعي الشامل مع النظرة العلمية للكون؟" فأجاب: بكلام اكثر منطقية "على العكس، إنها تتوافق مع العلم أكثر من الرؤية المادية البحتة، لأنها تقدم تفسيراً لظاهرة الوعي التي تعجز المادية عن تفسيرها".
  • حجة الكفاءة الفلسفية: يرى بعض الفلاسفة أن نظرية الوعي الشامل أكثر كفاءة فلسفياً من النظريات الأخرى، لأنها تتجنب الثنائية (الفصل بين العقل والمادة) والاختزالية (اختزال الوعي إلى مجرد عمليات مادية).

تجربتي مع مفهوم الوعي الشامل: خلال بحثي في النظريات الفلسفية للوعي، كنت أعتقد أن نظرية الوعي الشامل نوع من "الخرافة الفلسفية"، لكن موقفي تغير تدريجياً مع تعمقي في دراسة المشكلة الصعبة للوعي. في إحدى الليالي المقمرة، جلست في سطح منزلي أتأمل النجوم، وتساءلت: هل يمكن أن ينشأ الوعي - بكل تعقيده وغناه - من مادة لا وعي لها؟ تذكرت مثال تشالمرز الشهير: "تخيل كوناً فيزيائياً مطابقاً لكوننا في كل شيء، لكن بلا وعي. هل هذا ممكن؟" وأدركت أن هذا المثال يكشف عن فجوة تفسيرية عميقة في النظرة المادية للكون. لكن رغم تعاطفي المتزايد مع نظرية الوعي الشامل، لاحظت أنها تفتقر إلى البعد الروحي والأخلاقي الذي تتميز به الرؤية الإسلامية للكون الواعي. فهي تفسر وجود الوعي في الكون، لكنها لا تفسر غايته ومعناه.

نظرية المعلومات المتكاملة (Integrated Information Theory)

أسس النظرية ومفاهيمها الأساسية: تفترض نظرية المعلومات المتكاملة أن الوعي هو نتيجة للتكامل المعلوماتي في نظام مُعقد، وأنه يمكن قياس مستوى الوعي في هذا النظام بمقدار تكامل المعلومات فيه، المُعبر عنه بالرمز (Φ). وكلما زاد تكامل المعلومات في النظام، زاد مستوى الوعي فيه. تعتمد النظرية على عدة مفاهيم أساسية: التمايز الداخلي (قدرة النظام على التمييز بين حالات متعددة ومختلفة)، التكامل الداخلي (قدرة النظام على دمج المعلومات من مختلف أجزائه في كل متماسك)، الإدراك الذاتي (الوعي هو إدراك ذاتي للنظام لنفسه وللعالم، من داخل النظام نفسه).

تجارب علمية وتطبيقات: شاهدت عندما تم عرض تجربة فريق تونوني، حيث استعرضوا تطبيق النظرية على مرضى الغيبوبة وحالات الوعي المتدنية. كان مدهشاً كيف استطاعوا، من خلال قياس تكامل المعلومات في الدماغ، التنبؤ بمستوى وعي المريض وباحتمال استعادته للوعي. عندما سألوا تونوني عما إذا كانت نظريته تقترب من نظرية الوعي الشامل، فأجاب: "نعم، فنظريتي تفترض أن أي نظام له درجة من تكامل المعلومات، له درجة من الوعي، مهما كانت بسيطة. الفرق أن نظريتي تقدم إطاراً رياضياً لقياس هذا الوعي". وبالفعل، عندما تأملت في النظرية، وجدت أنها تقترب من الفكرة القرآنية حول تفاوت درجات التسبيح بين المخلوقات، لكنها تستخدم لغة المعلومات والرياضيات بدلاً من لغة التسبيح والعبادة.

نقد وتقييم: رغم إعجابي بدقة نظرية المعلومات المتكاملة وقوتها التفسيرية، لاحظت أنها تعاني من بعض القصور، خاصة فيما يتعلق بالجانب النوعي للتجربة الواعية. في نقاش مع أحد تلاميذ تونوني، طرحوا عليه سؤالاً: "هل يمكن للرياضيات وحدها أن تفسر لماذا تبدو التجربة الذاتية للوعي بهذا الشكل وليس بشكل آخر؟ لماذا يبدو اللون الأحمر أحمر، والألم مؤلماً؟" أجاب بتواضع: "هذه أسئلة ما زلنا نعمل عليها". وهنا أرى أن الرؤية الإسلامية للوعي الكوني تقدم إجابة أعمق، تتجاوز حدود الرياضيات والمعلومات، إلى المعنى والغاية. فالوعي في الرؤية الإسلامية ليس مجرد تكامل معلوماتي، بل هو تجلٍ للحكمة الإلهية وإعجازها.

نظرية العقل الكمومي (Quantum Mind Theory)

الوعي والفيزياء الكمية: تقترح هذه النظرية أن ظواهر ميكانيكا الكم، مثل التشابك الكمومي والتراكب الكمومي، تلعب دوراً أساسياً في عمل الدماغ وظهور الوعي. وتحديداً، تفترض أن الأنابيب الدقيقة (Microtubules) داخل الخلايا العصبية تعمل كحواسيب كمومية، تقوم بعمليات تتجاوز قدرات الحوسبة التقليدية. الفكرة الجوهرية للنظرية هي أن الوعي ليس ناتج عن التفاعلات الكيميائية العصبية في الدماغ بل قد يكون له أساس كمومي. عندما سؤل بنروز بعد محاضرة: "هل تعتقد أن نظريتك تسد الفجوة بين العلم والوعي؟" أجاب: "ليس تماماً، لكنها خطوة في هذا الاتجاه. الوعي ظاهرة معقدة للغاية، وفهمنا لها ما زال في بدايته".

الوعي الكوني والكمومية: الجانب المثير في نظرية العقل الكمومي هو اقتراحها لصلة بين الوعي البشري والكون ككل. في كتاب "عقول، آلات وقوة الوعي"، يكتب بنروز: " أرى أن ظاهرة الوعي لا يمكن تفسيرها ضمن الإطار الفيزيائي المتداول حاليًا. إن النظر إلى مشكلة العقول الواعية بجدية ليس خيارًا فلسفيًا فقط، بل ضرورة للقول بوجود تصور علمي مكتمل. ومن هنا يجدر بنا السعي نحو صياغة فيزياء جديدة، تتجاوز كلّ ما هو قابل للحوسبة، كي نستوعب الحقيقة الحقيقية للوعي.» (بنروز، عقول وآلات وقوة الوعي). وهذه الفكرة أقرب إلى الرؤية الإسلامية للوعي الكوني من النظريتين السابقتين، إذ تفترض اتصالاً بين وعي الإنسان ووعي الكون الأكبر، لكنها تفسر هذا الاتصال من خلال آليات فيزيائية (كمومية)، بينما تفسره الرؤية الإسلامية في إطار روحي إلهي.

تجربتي مع آثار النظرية: تأثرت كثيراً بنظرية العقل الكمومي، خاصة فكرة أن وعينا متصل بالبنية الكمومية للكون. في إحدى رحلاتي للصحراء، قضيت ليلة كاملة أتأمل النجوم، محاولاً استشعار هذا الاتصال العميق. ورغم أن النظرية ما زالت مثيرة للجدل في الأوساط العلمية، فإنها فتحت آفاقاً جديدة في فهم الوعي، وقدمت جسراً محتملاً بين العلم الحديث والرؤى الروحية التقليدية. وقد وجدت في كتابات الفلاسفة المسلمين المعاصرين، مثل سيد حسين نصر، صدى لهذه الفكرة، حين يتحدث عن "وحدة الوجود المتعالية" التي تربط كل أجزاء الكون ببعضها، وبخالقها. بينما نصر لا يصرح مباشرة أن الوعي متصل بالبنية الكمومية للكون، فإنه يعبر عن رؤية تبدأ من أساس وحدة شاملة للوجود، تشمل الإنسان والطبيعة وربّما الواقع الكوني الأعمق. النظرة الكونية المقترِنة بـ panpsychism أو quantum consciousness ترى أيضًا أن الوعي ليس خاصية بشرية فقط، بل منسجم مع بنية الكون الإشعاعية والكمومية.

نظرية الوعي البيئي (Environmental Consciousness)

الإدراك المتجسد والمنتشر: منذ بضع سنوات، قرأت كتاباً مؤثراً بعنوان "العقل في الحياة" (Mind in Life) للفيلسوف إيفان طومسون، الذي يطور فيه مفهوم "الإدراك المتجسد" (Embodied Cognition). يرى طومسون أن الإدراك ليس عملية تحدث في الدماغ فقط، بل هو متجسد في الجسم كله، ومنتشر في التفاعل بين الكائن وبيئته. هذه الفكرة أساس نظرية الوعي البيئي، التي ترى أن الوعي ليس محصوراً في الكائنات الفردية، بل هو خاصية للنظم البيئية كلها، وأن الكائنات تشارك في نوع من "الوعي الجماعي" مع بيئتها. يقول إيفان طومسون: «حيثما وُجدت الحياة، وُجد العقل؛ والعقل، في أكثر أشكاله تعقيدًا، هو امتداد للحياة نفسها. الحياة والعقل يشتركان في مجموعة أساسية من الخواص البنيوية التنظيمية… ووفقًا لهذا المنظور، فإن الحياة العقلية هي أيضًا حياة جسدية، ومتموضعة في العالم.» (طومسون، العقل في الحياة، ص 87). وتقدم النظرية اعتقادا بأن هناك وعيا أساسيا أو قوة حية تسري في كل مظاهر الكون مما يعني ان الإضرار باي جزء من الكون هو إضرار بالكل بما في ذلك الذات.

الحلقات الإدراكية والترابط البيئي: من المفاهيم المهمة في نظرية الوعي البيئي مفهوم "الحلقات الإدراكية" (Cognitive Loops)، التي تشير إلى أن الإدراك يحدث في حلقات متبادلة بين الكائن وبيئته، وليس في اتجاه واحد من البيئة إلى الكائن. تذكرت هذا المفهوم في فيلم وثائقي عن غابات الأمازون، حيث شاهدت تفاعلاً معقداً بين النباتات والحيوانات والبشر. لم يكن الأمر مجرد كائنات منفصلة، بل منظومة متكاملة من العلاقات والتأثيرات المتبادلة. وهذه الرؤية تقترب من الرؤية الإسلامية للكون كنسيج متكامل، كما في قوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3].

التطبيقات البيئية والأخلاقية: ما أعجبني في نظرية الوعي البيئي هو تطبيقاتها العملية في المجال البيئي والأخلاقي. فهي تؤسس لعلاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة، تتجاوز النظرة الاستغلالية، إلى نظرة تقوم على الاحترام والشراكة. لقد استلهمت من هذه النظرية تصميم مشروعات تحافظ على التوازن البيئي، وتراعي حقوق جميع الكائنات، من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات. وهذه التطبيقات تلتقي مع مفهوم "الاستخلاف" في الرؤية الإسلامية، الذي يرى الإنسان مؤتمناً على الأرض، مسؤولاً عن إعمارها وحمايتها، لا مستغلاً لها.

المبحث الخامس: مقارنة نقدية بين النظريات الغربية والرؤية الإسلامية

نقاط الالتقاء

خلال دراستي للنظريات الغربية المعاصرة للوعي الكوني، والرؤية الإسلامية له، وجدت عدة نقاط التقاء مهمة:

  • شمولية الوعي: تتفق النظريات المعاصرة، خاصة نظرية الوعي الشامل، مع الرؤية الإسلامية في أن الوعي منتشر في كل أجزاء الكون، وليس مقتصراً على الإنسان أو الحيوانات العليا.
  • تدرجية الوعي: تتفق النظريات المعاصرة، خاصة نظرية المعلومات المتكاملة، مع الرؤية الإسلامية في أن الوعي متدرج ومتفاوت بين الكائنات، وأن كل كائن له نوع من الوعي يتناسب مع طبيعته وتعقيده.
  • الترابط الكوني: تتفق النظريات المعاصرة، خاصة نظرية العقل الكمومي ونظرية الوعي البيئي، مع الرؤية الإسلامية في أن الكون مترابط ومتكامل، وأن وعي الإنسان متصل بالوعي الكوني الأكبر.

نقاط الاختلاف

رغم نقاط الالتقاء المهمة، هناك اختلافات جوهرية بين النظريات الغربية والرؤية الإسلامية:

  • المرجعية والمصدر: تنطلق الرؤية الإسلامية من مرجعية الوحي (القرآن والسنة)، بينما تنطلق النظريات المعاصرة من مرجعيات فلسفية وعلمية بشرية.
  • الغاية والهدف: ترى الرؤية الإسلامية أن غاية الوعي الكوني هي معرفة الله وعبادته، بينما تتجنب النظريات المعاصرة غالباً الحديث عن غاية أو هدف للوعي الكوني.
  • البعد الروحي والأخلاقي: تؤكد الرؤية الإسلامية على البعد الروحي والأخلاقي للوعي الكوني، بينما تركز النظريات المعاصرة على الأبعاد المادية والمعرفية.

إمكانيات التكامل

رغم الاختلافات، أرى إمكانات واعدة للتكامل والحوار بين النظريات الغربية والرؤية الإسلامية:

  • الإثراء المعرفي المتبادل: يمكن للرؤية الإسلامية أن تستفيد من المفاهيم والأدوات العلمية التي طورتها النظريات الغربية، والعكس صحيح.
  • معالجة القصور المتبادل: يمكن للرؤية الإسلامية أن تعالج القصور الروحي والأخلاقي في النظريات الغربية، كما يمكن للنظريات الغربية أن تقدم أطراً علمية ومنهجية للرؤية الإسلامية.
  • بناء جسور للحوار: يمكن للاهتمام المشترك بالوعي الكوني أن يفتح مجالاً للحوار بين الثقافات والرؤى المختلفة، للوصول إلى فهم أعمق للوجود الإنساني وعلاقته بالكون.

في أحد المؤتمرات العلمية، كان هناك حلقة نقاش جمعت بين عالم أعصاب غربي ومفكر إسلامي. كان موضوع النقاش: "هل يمكن للعلم والدين أن يلتقيا في فهم الوعي الكوني؟" لمست فيه استعداداً من الطرفين للاستماع والتعلم، رغم الاختلافات المنهجية والفكرية. خرجت من هذا الحوار بقناعة أن النظريات الغربية المعاصرة حول الوعي الكوني، رغم علمانيتها، ورفضها لتدخل الدين في العلم إلا أنها تفتح نافذة جديدة للحوار مع الرؤية الإسلامية. إنها تتخلى تدريجياً عن النظرة المادية الصلبة للكون، وتقترب - رغماً عنها أحياناً - من رؤية أكثر روحانية وشمولية.

المبحث السادس: تجارب في دراسة الوعي الكوني: بين الغرب والإسلام

قصة بحث وتحول فكري

أود أن أشارككم كيف كنت أنظر للوعي سابقا في رحلتي مع دراسة الوعي الكوني. بدأت رحلتي البحثية متأثراً بالنظرة المادية للوعي، التي ترى أنه مجرد نتاج للتفاعلات العصبية في الدماغ. لكن مع تعمقي في الدراسة، واجهت أسئلة لم أجد لها إجابات مقنعة في الإطار المادي البحت.

كيف ينشأ الوعي من المادة؟ لماذا نشعر بالألم والفرح والحب؟ ما علاقة وعينا الفردي بالكون الأوسع؟. لماذا أحلم؟ كيف ينتج دماغي عالماً كاملاً من الصور والأصوات والمشاعر أثناء النوم؟ لماذا تبدو الأحلام حقيقية تماماً وقت حدوثها؟ لماذا أتذكر طفولتي كأنها "أنا"؟ كيف أشعر أنني نفس الشخص الذي كان عمره 5 سنوات؟ ما الذي يربط ذكرياتي القديمة بوعيي الحالي؟ لماذا أشعر أن "أنا" أجلس خلف عينيّ أراقب العالم؟ من الذي ينظر عندما أنظر؟ ومن الذي يفكر عندما أفكر؟ لماذا لا أستطيع إيقاف التفكير؟ من أين تأتي الأفكار التي تظهر في رأسي فجأة؟ لماذا لا أستطيع التحكم الكامل في عقلي رغم أنه "عقلي"؟

هذه أسئلة يومية بسيطة، لكنها تكشف عمق لغز الوعي الذي نعيشه كل لحظة. هذه الأسئلة قادتني للبحث عن إجابات في الفلسفات المختلفة، بما فيها النظريات الغربية المعاصرة المذكورة آنفاً، والرؤية الإسلامية للوعي الكوني. وكانت المفاجأة أني وجدت في الرؤية الإسلامية عمقاً وشمولية لم أجدها في النظريات الغربية.

في ليلة من ليالي رمضان، بعد تلاوة آيات من سورة النمل، توقفت عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 18]. كأني أسمعها للوهلة الأولى: هذه النملة لديها وعي وإدراك، وتتواصل مع قومها، وتفهم العلاقات السببية، وتتخذ قراراً وقائياً! أدركت حينها أن القرآن الكريم قد قرر مبدأ الوعي في الكائنات غير البشرية قبل أربعة عشر قرناً، بينما بدأت الفلسفة الغربية المعاصرة بطرحه حديثاً، ومازالت تعاني من مقاومة شديدة من التيار المادي السائد.

ممارسات وتجارب تأملية

في إطار بحثي في الوعي الكوني، خضت تجارب تأملية متنوعة، جمعت فيها بين ممارسات مستمدة من النظريات الغربية المعاصرة والرؤية الإسلامية:

  • تأمل الوعي المفتوح: وهو تقنية طورها الباحثون في علم الأعصاب التأملي، تقوم على الانتباه المفتوح للخبرة اللحظية، دون تركيز محدد.
  • التفكر القرآني: وهو ممارسة إسلامية أصيلة، تقوم على التأمل العميق في آيات الله في الآفاق والأنفس، بهدف استشعار عظمة الخالق وحكمته.

وجدت في الجمع بينهما تجربة ثرية وعميقة. فتأمل الوعي المفتوح يساعد على صقل الانتباه وتهدئة الذهن، مما يهيئ النفس للتفكر القرآني العميق، الذي يضيف البعد الروحي والمعنوي للتجربة. مارست هذا التأمل المزدوج أمام شلال ماء وسط الطبيعة. بدأت بتأمل الوعي المفتوح، ملاحظاً الأصوات والمشاهد والأحاسيس الجسدية، ثم انتقلت إلى التفكر القرآني، متأملاً في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [الحج: 63]. كانت تجربة عميقة، شعرت خلالها بانفتاح وعيي، وبتناغم عميق مع كل ما في الكون من مخلوقات، من قطرات الماء المتساقطة إلى الطيور المحلقة إلى الأشجار الشامخة.

وعي الطبيعة: بين العلم والتجربة الشخصية

أثناء زياراتي البحثية، زرت مختبراً متخصصاً في دراسة "ذكاء النباتات" كنت متشككاً في البداية حول فكرة وجود "ذكاء" لدى النباتات، لكن ما شاهدته أذهلني. قدم الباحثون تجارب علمية دقيقة تُظهر أن النباتات تستجيب للمؤثرات المحيطة بها، وتتواصل مع بعضها، وتتذكر التجارب السابقة، وتتعلم منها. رأيت نباتات تميّز بين أقاربها وغيرها، وتستجيب للصوت والموسيقى. مرة أخرى، وجدت نفسي أمام تقارب مدهش بين المكتشفات العلمية الحديثة والإشارات القرآنية، مثل قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6]. وفي رحلة علمية لاحقة إلى غابة مطيرة، قضيت ساعات أراقب تفاعل النباتات مع بعضها ومع الحيوانات. لم أكن أراقب فقط بعين الباحث، بل بحساسية جديدة اكتسبتها من دراستي للوعي الكوني. شعرت أنني أقف أمام كائنات واعية، لها حياتها وذكاؤها وتسبيحها الخاص، وليست مجرد أشياء جامدة. هذه التجربة عمقت إيماني بما ذكره القرآن الكريم من تسبيح وسجود كل ما في الكون، وفتحت عيني على أبعاد جديدة للوعي الكوني.

المبحث السابع: آفاق مستقبلية: نحو حوار عميق بين الرؤى المختلفة للوعي الكوني

فرص التلاقي العلمي والفلسفي

أرى أن المستقبل يحمل فرصاً واعدة للتلاقي بين النظريات الغربية المعاصرة والرؤية الإسلامية للوعي الكوني، خاصة مع تزايد الاهتمام العلمي بهذا الموضوع، وانفتاح بعض الباحثين الغربيين على الأبعاد الروحية والفلسفية للوعي. هذا الانفتاح يمثل فرصة للمفكرين المسلمين لتقديم الرؤية الإسلامية للوعي الكوني، والمشاركة في الحوار العلمي والفلسفي العالمي حول هذا الموضوع.

مجالات البحث المستقبلية

أرى عدة مجالات واعدة للبحث المستقبلي في موضوع الوعي الكوني، من منظور يجمع بين العلم والفلسفة والرؤية الإسلامية:

  • دراسة الوعي في الكائنات غير البشرية: من النباتات إلى الحيوانات إلى النظم البيئية الكاملة، وربط ذلك بالإشارات القرآنية والنبوية حول تسبيح هذه الكائنات.
  • تطوير نماذج للوعي تتجاوز الثنائية: نماذج تتجاوز ثنائية المادة والروح، وتقدم فهماً تكاملياً للوعي البشري والكوني.
  • استكشاف العلاقة بين الوعي والطاقة: بحث فكرة أن الوعي قد يكون شكلاً من أشكال الطاقة، له قوانينه وديناميكياته الخاصة، وربط ذلك بمفهوم "النور" في الرؤية الإسلامية.
  • دراسة تأثير العبادات الإسلامية على الوعي: بحث تأثير الصلاة والصيام والذكر والتلاوة على حالات الوعي البشري، باستخدام التقنيات العلمية الحديثة.

خاتمة: الوعي الكوني كنقطة التقاء بين العلم والإيمان

في ختام هذا المبحث، أرى أن مفهوم الوعي الكوني يمثل نقطة التقاء فريدة بين العلم والإيمان، وبين الفلسفة الغربية المعاصرة والرؤية الإسلامية. فالنظريات الغربية المعاصرة، مثل نظرية الوعي الشامل ونظرية المعلومات المتكاملة ونظرية العقل الكمومي ونظرية الوعي البيئي، تكتشف - طواعية أو كرهاً - ما أشار إليه القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً: أن الكون بأكمله حي واعٍ مسبح.

والرؤية الإسلامية للوعي الكوني، المستندة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، تضيف إلى هذه النظريات بعداً روحياً وأخلاقياً وغائياً، يجعلها أكثر تكاملاً وشمولية. وإذا كان العلم الحديث قد أنشأ نظريات تشرح "كيف" يعمل الوعي الكوني، فإن الرؤية الإسلامية تخبرنا "لماذا" يوجد هذا الوعي، وما غايته ومعناه.

أختم بآية تلخص، في نظري، جوهر الوعي الكوني كما تقدمه الرؤية الإسلامية:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾
[الجمعة: 1]

في هذه الآية، نجد الإجابة الشافية عن "ما" الوعي الكوني (تسبيح كل ما في السماوات والأرض)، و"لماذا" يوجد (للتسبيح والعبادة)، و"لمن" يتوجه (لله الملك القدوس العزيز الحكيم).

والله أعلم وأحكم

شاركنا تأملاتك

م

محمد

منذ ساعة

مقال رائع يجمع بين عمق الفلسفة وروحانية الإيمان. جزاكم الله خيراً.

الفصل السابق: التصميم الذكي في الكون جدول المحتويات الفصل التالي: ترانيم الشفاء ونبضات التسبيح