عشر سنوات! لم أتوقع أن تمر بهذا الثقل والخفة معاً. عشر سنوات منذ أن وقفت أمام آية سورة الإسراء:
وشعرت وكأن شيئاً في داخلي انفتح فجأة. لم يخطر ببالي - حتى في أجمل أحلامي - أن تصبح تلك التأملات المتناثرة كتاباً كاملاً. كانت مجرد خاطر طرأ عليّ وتساءلت.
الآية الكريمة كانت أشبه بنافذة انفتحت في جدار مظلم، فانهمر منها ضوء لم أكن أتوقعه. دروب من المعرفة لم أعرف بوجودها، أبواب من التأمل ظننت أن العقل البشري عاجز عن اقتحامها. وها أنا أجد نفسي اليوم... أكتب خاتمة لرحلة ربما تكون أطول من عمر الكتاب نفسه.
أتراني أبالغ لو قلت إن الكون يعزف سيمفونية؟ سيمفونية غاية في الإتقان والإبداع، تكاد تخترق القلوب بعظمتها؟ المشكلة أننا - في زحمة حياتنا وضوضاء انشغالاتنا المحمومة - بالكاد نسمع همساً خافتاً منها. وكأننا نقف وسط مهرجان موسيقي عظيم وقد سددنا آذاننا بأصابعنا، فلا نسمع سوى صدى باهت من الألحان المتناغمة.
هذا ما أردت فعله في هذا الكتاب: أن أجعلك تحس به وتفهمه... إزالة بعض الغشاوات، فتح النوافذ المغلقة في النفوس، جعلنا نتأمل - ولو للحظة - مشهداً بديعاً من تناغم الكون بكل مكوناته.
ذات صباح باكر - والندى ما زال يتلألأ على الأوراق - وقفت في شرفة منزلي أتأمل قطرات الندى على بتلات زهرة صغيرة. خطر لي سؤال غريب: هل هذه القطرات البلورية واعية؟ هل تدرك جمال تكوينها؟ هل تتحسس عذوبة وجودها؟
سؤال قد يبدو سخيفاً للوهلة الأولى، لكنه ألحّ عليّ حتى صار هاجساً. دفعني للتنقيب في كتب الفيزياء الحديثة... وما وجدته هناك فاق توقعاتي!
الوعي - كما يبدو لي الآن، وبعد كل هذا البحث - ليس مجرد ظاهرة عارضة نشأت بالصدفة في خلايا دماغنا. الوعي هو جوهر الوجود ونسيجه الأساس. نعم! الكون ليس مادة صماء جوفاء. الكون كيان حي، واعٍ، حساس، مدرك. يتفاعل بذكاء مع محيطه، ويشهد في كل لحظة بوحدانية خالقه وعظمته.
أردت من خلال هذا الكتاب أن أزيل الغشاوات... أن أفتح القلوب والأبصار على مشهد بديع. من الذرة الصغيرة إلى المجرة العظيمة، من الخلية الدقيقة إلى الكائن المعقد، من البحار الهادرة إلى الجبال الشامخة... كلها تشترك في ترتيل قصيدة الوجود. كلها تنبض بإيقاع واحد. متناغم. متكامل. يتجه بكليته نحو المبدع الخالق جلَّ وعلا.
عجيب هذا التناغم بين ما يهمس به العلم اليوم وما صدح به القرآن منذ أربعة عشر قرناً! أتذكر مساء... كنت أجلس مع أحد زملائي تحت سماء مليئة بالنجوم. قال لي فجأة: "أتدري أن نظريات الفيزياء الحديثة تقترب شيئاً فشيئاً من التصور القرآني للكون؟". توقفت عن مراقبة النجوم ونظرت إليه... كان جاداً تماماً.
التحول في القرن العشرين كان جذرياً في الفيزياء. من النموذج الميكانيكي الذي ساد في عصر نيوتن، إلى النموذج الكمي الذي كشف ستار الغيب عن كون أكثر تعقيداً وغموضاً وروعة مما تصورنا. كون لا تحكمه الحتمية الصلبة، بل الاحتمالات والإمكانات المتعددة.
استيقظت ذات فجر على فكرة أدهشتني: ماذا لو كان الوعي البشري مجرد شظية صغيرة من وعي كوني أكبر؟ وعي يشمل كل الوجود؟ وماذا لو كان هذا الوعي هو المادة الأولية للكون، وليس العكس؟
يتجلى في الحجر الصلب الذي يبدو جامداً... وفي النبات الذي ينمو متجهاً نحو الشمس... وفي النملة الصغيرة التي تعرف طريقها إلى مستعمرتها... وفي النجم البعيد الذي يرسل إشعاعه عبر الفضاء السحيق. كلها تعبيرات مختلفة عن وعي واحد يسري في كل شيء. كلها تسبيحات متنوعة للخالق العظيم.
وكما تحدثنا في فصول الكتاب، فإن فيزياء الكم كشفت عن عالم مذهل من التشابك الكوني. جسيمات تظل مترابطة ومتفاعلة، حتى لو فصلت بينها ملايين السنين الضوئية! هذا يشير إلى أن الانفصال الذي نشعر به في عالمنا المادي مجرد وهم. الحقيقة العميقة للوجود هي الوحدة والترابط. كأن الكون كله كائن واحد متناغم، تتصل أجزاؤه بعضها ببعض في شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات.
ما أردت إثباته من خلال هذا الكتاب ليس فقط تناغم الكون وتسبيحه، بل أيضاً التناغم العميق بين الإيمان والعلم... بين الوحي والعقل... بين الدين والحداثة.
ساد في القرون الأخيرة اعتقاد خاطئ: أن العلم والدين متناقضان، وأن كل تقدم علمي انتصار للمادية على حساب الإيمان. اعتقاد خاطئ تماماً! العلم الحقيقي، كلما تعمق واتسع، أظهر لنا المزيد من آيات الإبداع في الخلق، والمزيد من دلائل القصد والتصميم في الكون.
أكبر دليل على ذلك ما شهده القرن العشرون من تحول جذري في الفيزياء. من النموذج الميكانيكي الصارم الذي ساد في عصر نيوتن، إلى النموذج الكمي الغامض الذي كشف لنا عن كون أكثر تعقيداً وغموضاً وروعة مما تصورنا. كون لا تحكمه الحتمية الصارمة، بل الاحتمالات والإمكانات. كون لا ينفصل فيه المراقب عن الظاهرة المرصودة، بل يؤثر فيها بمجرد مراقبته لها.
هذا التحول الكبير في النظرة العلمية للكون كشف لنا عن أبعاد جديدة في فهم الوعي ودوره في الوجود. بينما كان الوعي في النموذج المادي الكلاسيكي مجرد ظاهرة ثانوية تنتج عن تفاعلات كيميائية في الدماغ، أصبح في النموذج الكمي الجديد أكثر جوهرية وأساسية. بل إن بعض النظريات العلمية المعاصرة تذهب إلى أن الوعي ربما يكون هو النسيج الأساسي للوجود، وأن المادة نفسها ليست إلا تجلياً لهذا الوعي الكوني الشامل.
وهذا يتطابق تماماً مع الرؤية القرآنية التي تخبرنا أن الكون كله مسخر لله، يسبح بحمده، ويسير وفق إرادته ومشيئته. رؤية تضع الوعي والإرادة في قلب الوجود، وليس على هامشه.
الكون في جوهره واعٍ ومدرك. يتنفس ويتحرك ويستمع ويستجيب. وربما أكثر مما نتصور. ذات مرة، في زيارة إلى متنزه طبيعي، جلست وحيداً تحت شجرة باسقة. أغمضت عيني، وحاولت أن أستمع بكل كياني. فجأة، شعرت بنبض غريب يسري في الهواء من حولي. وكأن الشجرة تتنفس، والأرض تهمس، والنسيم يحكي. شعور لا أستطيع وصفه، لكنه ملأني بيقين أن الكون الصامت ظاهرياً يعج في باطنه بحياة وحركة ووعي.
إن أعمق ما استكشفناه في هذا الكتاب هو ذلك النبض الحي الذي يسري في عروق الكون، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة. نبض يحمل في طياته أسرار الخلق، وأسرار العلاقة بين الخالق والمخلوق، وأسرار الغاية من الوجود. اكتشفنا أن الكون، في أعماقه، واعٍ ومدرك. يستمع ويستجيب، يتفاعل ويتواصل. وهذا الوعي الكوني ليس منفصلاً عن وعينا البشري، بل متصل به، متضمن فيه. كأننا قطرات من بحر الوعي الإلهي اللامتناهي، ننفصل عنه لحظياً لنعود إليه في النهاية.
أكثر ما أدهشني في رحلتي البحثية هو التوافق المذهل بين ما يكشفه العلم الحديث وما أخبرنا به القرآن الكريم. فها هي فيزياء الكم تكشف عن عالم عجيب من التشابك الكوني، حيث تظل الجسيمات متصلة ومؤثرة في بعضها رغم المسافات الشاسعة، وكأنها تتخاطب بلغة خفية.
استطعنا في هذا الكتاب أن نُظهر التوافق العميق والمدهش بين الرؤية القرآنية للكون وبين ما توصلت إليه النظريات العلمية الحديثة. كشفت فيزياء الكم عن عالم غريب من التشابك الكوني، حيث تتصل الجسيمات بعضها ببعض عبر مسافات شاسعة، وتتأثر ببعضها البعض بشكل فوري يتجاوز حدود الزمان والمكان، كأنها تنتمي لكينونة واحدة متكاملة.
وأظهرت الدراسات البيولوجية الحديثة أن الخلايا الحية تملك نوعاً من الذكاء والإدراك، تستطيع من خلاله أن تستشعر محيطها وتتفاعل معه. بل إن الخلايا تتواصل فيما بينها بلغة معقدة، وتعمل بتناغم وانسجام يشبه عمل الأوركسترا الموسيقية. وكشفت النظريات الكونية الحديثة عن كون متوازن بدقة مذهلة، كأنه مصمم خصيصاً لاستضافة الحياة والوعي.
كل هذه الاكتشافات والنظريات العلمية الحديثة تتقاطع بشكل عجيب مع رؤية القرآن الكريم للكون، ذلك الكتاب الذي يخبرنا أن الجمادات تسبح، وأن الأشجار تسجد، وأن الجبال تخشع، وأن الشمس والقمر والنجوم وكل ما في الكون يسير وفق نظام إلهي محكم، وينطق بوحدانية الخالق وعظمته.
لم تكن رحلة تأليف هذا الكتاب سهلة أو يسيرة. أخذت مني سنوات من البحث والتنقيب. أذكر ليالي طويلة قضيتها أمام شاشة الحاسوب... أتصفح عشرات المواقع والأبحاث... أطالع ما وصل إليه الفيزيائيون في أحدث نظرياتهم... وأستوعب ما اكتشفه علماء الأحياء في سلوك الخلايا... وما استنبطه علماء الفلك من خصائص الكون وقوانينه.
كنت أنتقل بين المصادر المتعددة كالنحلة بين الأزهار، أرتشف رحيق المعرفة من هنا وهناك، وأحاول جاهداً أن أنسج من تلك المعلومات المتناثرة نسيجاً متكاملاً، يربط بين آيات القرآن ومعطيات العلم الحديث، بأمانة ودقة ودون تكلف.
كم مرة ألقيت بأوراقي جانباً، وقلت لنفسي: "هذا البحث أكبر مني"! لكن شوقي لاكتشاف المزيد عن هذا الكون العجيب وتسبيحه، كان يدفعني للمواصلة. لم أشأ أن أقدم للقارئ مجرد تأملات ذاتية أو انطباعات شخصية، بل أردت أن أقدم له صورة متكاملة، تستند إلى أسس علمية راسخة.
حرصت على الدقة في نقل الآراء والنظريات العلمية، وعلى الأمانة في نسبة الأقوال إلى أصحابها، وعلى الموضوعية في عرض وجهات النظر المختلفة. لم أسع إلى تطويع العلم لخدمة فكرة مسبقة، بل اتبعت المنهج العلمي في التفكير والاستقصاء، موقناً أن الحقيقة العلمية، إذا وصلنا إليها بنزاهة وتجرد، لا يمكن أن تتعارض مع الحقيقة الإيمانية، لأن مصدرهما واحد.
وفي الوقت نفسه، حرصت على أن أصيغ هذه المعلومات بأسلوب أدبي، يخاطب القلب كما يخاطب العقل، ويثير في النفس مشاعر الدهشة والإعجاب أمام عظمة الخلق وروعة الإبداع الإلهي. العلم الحقيقي لا يقتل الشعر والإحساس بالجمال، بل يزيده عمقاً ورسوخاً، ويفتح أمامه آفاقاً أوسع وأرحب.
رغم ما استعرضته في هذا الكتاب من أفكار ونظريات ومفاهيم، أدرك أن الرحلة لا تزال في بدايتها، وأن الطريق لا يزال طويلاً مليئاً بالاكتشافات. ثمة أسئلة تلح على ذهني: كيف يمكن للوعي البشري أن يتفاعل مع الوعي الكوني الأوسع؟ هل يمكن للإنسان أن يطور قدراته الإدراكية ليستشعر ويسمع تسبيح الكائنات من حوله؟
حين كنت على متن طائرة ذات يوم، وهي تخترق طبقات السحاب، نظرت من النافذة متأملاً ذلك البحر الأبيض من الغيوم، وتساءلت: "هل لهذه الغيوم وعي خاص بها؟ هل تشعر بلمسات الطائرة وهي تشق طريقها عبرها؟" سؤال قد يبدو ساذجاً أو شاعرياً، لكن نظريات الوعي الشامل تجعله سؤالاً علمياً صارماً يستحق البحث.
هذه الأسئلة وغيرها تفتح الباب أمام أجيال قادمة من الباحثين والعلماء والمفكرين، ليواصلوا رحلة الاستكشاف والاكتشاف. وأملي أن يكون هذا الكتاب شعلة تضيء لهم بعض الطريق، وتلهمهم لمواصلة البحث والاستقصاء.
وقفت ذات مساء على شاطئ البحر... أتأمل الأمواج وهي تتلاطم، والنجوم وهي تتلألأ في صفحة السماء الصافية... وتساءلت: "ما الذي ينتظر البشرية في المستقبل؟ كيف ستتطور علاقة الإنسان بالكون الواعي في العقود والقرون القادمة؟"
أرى أمامي مفترق طرق حاسم: إما أن تستمر البشرية في طريق الانفصال والاغتراب، معتبرة نفسها سيدة الطبيعة ومالكة الكون، ومصعدة من حربها الهوجاء على البيئة والمحيط الحيوي. وإما أن تختار طريق الانسجام والتناغم، مدركة أنها جزء من كل أكبر، وأن سعادتها وبقاءها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بسلامة الكون كله.
لاحظت في السنوات الأخيرة بوادر أمل في اختيار الطريق الثاني. صحوة معرفية وروحية تنمو في ثنايا المجتمعات العالمية، وإدراك متزايد بأهمية الحفاظ على البيئة، والعيش بانسجام مع الطبيعة. أكبر مؤشر على هذه الصحوة هو التقارب المتزايد بين العلم والروحانية، بين الفيزياء والميتافيزيقيا. أرى أن هذا التقارب سيتعمق ويتسع في المستقبل، وسيؤدي إلى فهم أعمق وأشمل للكون الواعي وعلاقته بالإنسان.
هناك العديد من المجالات البحثية الواعدة التي يمكن أن تتطور في المستقبل، وتسهم في تعميق فهمنا للوعي الكوني وترانيمه:
وفي صميم هذه الرؤية، ما موقع الإنسان؟ أوضحت في ثنايا الكتاب أن الإنسان يحتل مكانة خاصة في منظومة الوعي الكوني. ليس لتفوقه على سائر المخلوقات، بل لأنه يمتلك قدرة فريدة على الاختيار الواعي والإرادة الحرة. بينما تسبح جميع المخلوقات بحمد الله بفطرتها وطبيعتها الملهمة، يملك الإنسان وحده حرية الانضمام إلى هذه السيمفونية الكونية أو الشذوذ عنها.
أتأمل كثيراً في معنى أن الإنسان "خليفة الله في الأرض"... وأرى أن هذا المعنى أعمق بكثير مما هو شائع. الخليفة هو من يحمل أمانة من استخلفه، ويعمل وفق إرادته ومشيئته. وإذا كان الكون كله يسبح بحمد الله، فإن الإنسان مطالب بأن يكون قائداً لهذه السيمفونية، مدركاً لتناغمها، مساهماً في انسجامها، لا مخرباً لنظامها ومعطلاً لتناغمها.
لكن الإنسان في غفلته وانغماسه في الماديات، كثيراً ما ينسى هذه الأمانة، ويستخدم قدراته في الإفساد بدل الإصلاح. لعل هذه الغفلة سبب الأزمات البيئية والاجتماعية والروحية التي يعاني منها العالم اليوم. الشفاء من هذا الاغتراب يكمن في استعادة الإنسان لوعيه الكوني، وإدراكه أنه ليس منفصلاً عن الكون، بل هو جزء منه.
ومن هنا تكتمل دائرة الوجود، عائدة إلى نقطة البداية: الله سبحانه وتعالى، الخالق الواحد الأحد، مصدر كل وعي، ومبدأ كل وجود. كما بدأنا منه، فإليه نعود. وكما انبثق الكون من إرادته ووعيه، فإليه يرجع في نهاية المطاف.
هذه الحقيقة العظمى يؤكدها القرآن الكريم في آيات عديدة، منها قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
أذكر موقفاً غريباً حصل معي في ليلة شتاء باردة. خرجت أمشي وحيداً في حديقة قريبة من منزلي... كان الصمت مطبقاً والسكون مهيمناً. وقفت محدقاً في السماء الصافية، وفجأة، انتابني شعور غريب بالفناء. شعور بأنني لست سوى تموج عابر في محيط الوجود الأزلي. كان شعوراً مربكاً ومقلقاً في البداية، ثم تحول تدريجياً إلى إحساس عميق بالسكينة والطمأنينة. وكأنني أدركت للحظة أنني لست منفصلاً عن هذا الكل، بل أنا جزء منه، وأنه ليس هناك ما يدعو للخوف من "الفناء"، لأنه في الحقيقة "عودة" و"اتصال".
لعل أعظم غاية للإنسان، وأسمى مقصد له في هذه الحياة، هو أن يدرك هذه الحقيقة بكل كيانه: أنه من الله، وإلى الله، وبالله. وأن يعيش حياته كلها في ضوء هذه الحقيقة، فيكون عبداً حقاً لله، وخليفته حقاً في الأرض. هذه العبودية الحقة هي تحرر حقيقي من عبودية الأهواء والشهوات، وانعتاق للروح من قيود المادة.
وبهذا الإدراك، وبهذا الانتماء، وبهذا الانسجام، يحقق الإنسان سعادته الحقيقية وكماله المنشود. فيكون إنساناً كاملاً، مستخلفاً في الأرض كما أراد الله له، مسبحاً بحمد ربه كما تسبح السماوات والأرض ومن فيهن.
وهكذا، أصل إلى ختام هذه الرحلة المعرفية... رحلة استكشاف ترانيم الكون وتسابيحه. رحلة بدأت كومضة فكر وانتهت ككتاب. لا أدعي أنني بلغت الغاية أو أدركت النهاية، فالموضوع أعمق وأوسع من أن يحيط به كتاب أو يستوعبه عقل. لكنني حاولت أن أقدم رؤية متكاملة تجمع بين أصالة الوحي وحداثة العلم.
أرجو أن أكون نجحت في نقل بعض نغمات هذه المعزوفة الكونية إلى قلبك وعقلك، أيها القارئ العزيز. فإن كان لهذا الكتاب من فضل، فهو أنه قد يجعلك تنصت، ولو للحظة، إلى ترانيم الكون من حولك، وتدرك أنك لست غريباً في هذا الوجود، بل أنت جزء أصيل منه، تنتمي إليه، وينتمي إليك.
وإذا كان ثمة رسالة أخيرة أود أن أتركها معك، فهي: استمع إلى ترانيم الكون من حولك، وأنصت إلى صوت الخالق في أعماق قلبك، وانضم بوعي وإرادة إلى سيمفونية التسبيح الكوني. الكون كله يسبح بحمد ربه، فلتكن نغمتك الخاصة في هذه السيمفونية العظيمة.
وفي نهاية المطاف، أود أن أختم هذه الرحلة بكلمة شكر وامتنان:
الشكر أولاً وأخيراً لله، الذي ألهمني هذه الفكرة، وأعانني على تحويلها إلى كتاب. فلولا توفيقه وفضله، ما كنت لأتمكن من إنجاز هذا العمل.
والشكر موصول لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى النور، من باحثين وعلماء ومفكرين، استنرت بأفكارهم، واستفدت من جهودهم.
والشكر لك، أيها القارئ الكريم، الذي منحتني من وقتك وانتباهك، وشاركتني هذه الرحلة الفكرية المثيرة.
وإلى لقاء قريب، في رحلات معرفية أخرى، وآفاق فكرية جديدة، نستكشف فيها معاً المزيد من أسرار الوجود، ونتأمل فيها المزيد من آيات الخالق في الآفاق وفي الأنفس.
ما أجمل أن نكون جزءاً من هذه الملحمة الكونية العظيمة، وما أروع أن ننضم إلى جوقة المسبحين في موكب الوجود الخالد!