الفصل الثامن

تجارب الكون الواعي في التراث الإسلامي

محتويات الفصل

المقدمة

الكون في الرؤية الإسلامية ليس مجرد مادة جامدة تخضع لقوانين فيزيائية صماء، بل هو كائن حي مسبِّح، واعٍ، قانت لله، مستجيب لأمره. هذه الرؤية الفريدة للوجود تمثل نقطة فارقة بين التصور الإسلامي والتصور المادي الحديث الذي يختزل الكون في أبعاده المادية فقط.

يقول الله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44]

في هذا الفصل، نستعرض كيف استشعر المسلمون عبر التاريخ - من الصحابة إلى السلف والتابعين والصوفية والمفكرين - حقيقة الكون الواعي، وكيف تعاملوا معها كتجربة روحية وإيمانية حية، وكيف أثّرت هذه الرؤية على سلوكهم وفهمهم للعالم وعلاقتهم بالخالق.

ولا بد قبل الولوج من التحذير من الإفراط والتفريط.

المبحث الأول: استشعار المسلمين لحقيقة الكون الواعي عبر التاريخ

ينفسح سِفرُ التاريخِ الإسلاميِّ العظيمِ، لتُسرِّد أصداءُ رؤيةٍ كونيةٍ عميقةٍ، مفادُها أنَّ هذا الوجودَ الفسيحَ، بما فيهِ منْ جمادٍ ونباتٍ وحيوانٍ، ليسَ صامتاً بلْ هوَ كيانٌ واعٍ، مسبِّحٌ بحمدِ خالقِهِ. هذهِ الرؤيةُ لمْ تكنْ مجردَ نظريةٍ مجردةٍ، بلْ كانتْ تجربةً روحيةً حيةً، شكّلتْ وعيَ المسلمينَ وسلوكهمْ عبرَ العصورِ.

الصحابةُ والسلفُ الأوائلُ: شهودٌ على تسبيحِ الوجودِ

تميزَ فهمُ الصحابةِ الكرامِ والسلفِ الصالحِ للكونِ الواعي بالبساطةِ والعمقِ في آنٍ واحدٍ. كانوا يرونَ الكونِ بأكملهِ شاهداً على عظمةِ اللهِ، مسبحاً بحمدهِ. لقد استمدتْ تجربتُهمُ الروحيةُ أصولَها منَ القرآنِ الكريمِ الذي يشيرُ إلى أنَّ كلَّ شيءٍ في الكونِ يسبحُ بحمدِ اللهِ.

لقدْ عاشَ الصحابةُ حالةً منَ الشهودِ المباشرِ، حيثُ كانتِ العلاقةُ بالطبيعةِ علاقةَ تأملٍ وتدبرٍ عميقٍ. وقدْ عُرفَ عنْ بعضِ السلفِ الصالحِ شدةُ إدراكهمْ لتسبيحِ المخلوقاتِ، فكانوا يستشعرونَ ذلكَ بقلوبهمْ المنيرةِ. هذا الإدراكُ العميقُ جعلَهمْ يتعاملونَ معَ الكونِ كمخلوقٍ حيٍّ مسبحٍ بحمدِ اللهِ، مما أوجدَ لديهمْ احتراماً عميقاً للطبيعةِ والكائناتِ.

تعدُّ وصيةُ السلفِ الصالحِ "تفكروا في آلاءِ اللهِ ولا تفكروا في ذاتِ اللهِ" منهجاً بليغاً في هذا السياقِ. فهيَ تدعو إلى التأملِ في مظاهرِ الكونِ، وبديعِ خلقِ اللهِ، وعظيمِ آلائهِ، كطريقٍ لمعرفةِ الخالقِ، معَ التوقفِ عنِ الخوضِ في كنهِ ذاتِ اللهِ التي لا تحيطُ بها العقولُ.

المتصوفةُ والعرفانُ الإسلاميُّ: مرآةُ الحقِّ في الوجودِ

بلغَ التصورُ الإسلاميُّ للكونِ الواعي ذروتهُ في التجربةِ الصوفيةِ التي سعتْ إلى الكشفِ والشهودِ. يرى المتصوفةُ الكونَ كتجلٍّ للأسماءِ الإلهيةِ، وأنَّ كلَّ مخلوقٍ يعكسُ صفةً منْ صفاتِ اللهِ تعالى، مما يجعلُ الكونِ بأسرهِ دليلاً على وجودِ الخالقِ وعظمتِهِ.

يصفُ محيي الدينِ ابنُ عربيٍّ في "الفتوحاتِ المكيةِ" الكونَ بأنهُ "مرآةُ الحقِّ" التي تتجلى فيهِ أسماءُ اللهِ وصفاتُهُ، فيصبحُ النظرُ إلى الوجودِ عبادةً وتفكراً.

قصيدة جلال الدين الرومي: رقصة الكون

يعدُّ جلالُ الدينِ الروميُّ منْ أبرزِ الشعراءِ والمتصوفةِ الذينَ عَبّروا عنْ مفهومِ الكونِ كمرآةٍ تتجلى فيها أسماءُ اللهِ وصفاتُهُ، حيثُ تتناغمُ حركةُ الوجودِ في إحدى قصائدهِ يقولُ:

"أيها النهارُ أشرقْ! فذراتُ الكونِ ترقصُ، بفضلهِ الكونُ بأسرهِ يرقصُ ممتلئاً بالنشوةِ متحرراً منَ الجسدِ والعقلِ".

هذا التصويرُ الشعريُّ يُبرزُ كيفَ أنَّ كلَّ جزءٍ من الكونِ، من الذراتِ إلى الكواكبِ، يشاركُ في رقصةٍ كونيةٍ تعبيرًا عن الحبِّ الإلهيِّ.

المفكرونُ والفلاسفةُ المسلمونَ

طورَ الفلاسفةُ المسلمونَ الكبارُ، مثلُ ابنِ سينا والفارابيُّ وابنِ رشدٍ نظرياتٍ فلسفيةٍ تربطُ بينَ الوعيِ الكونيِّ ومفهومِ العقلِ الفعالِ. كانَ ابنُ سينا يرى أنَّ النفوسَ الموجودةَ في الأفلاكِ حيةٌ وواعيةٌ.

وبذلك، يرى الرازي أن النظر في آيات الكون والتأمل في تسبيح المخلوقات هو وسيلة لتعميق الإيمان وتقدير عظمة الخالق، حيث يُصبح الكون كتابًا مفتوحًا يُقرأ فيه دلائل التوحيد والإبداع الإلهي.

أثرُ هذهِ الرؤيةِ على السلوكِ والفهمِ

هذهِ الرؤيةُ العميقةُ للكونِ الواعي أثرتْ بعمقٍ على سلوكِ المسلمينَ وفهمهمْ للعالمِ عبرَ التاريخِ:

الشعورُ بالعبوديةِ الكونيةِ

استشعارُ أنَّ كلَّ مكوناتِ الكونِ تسبحُ بحمدِ اللهِ جعلَ المسلمَ يشعرُ بأنهُ جزءٌ منْ منظومةٍ كبرى منَ العبادةِ الكونيةِ، لا ينفصلُ عنها ولا يغتربُ عنها.

الرفقُ بالبيئةِ والمخلوقاتِ

ترسختْ مفاهيمُ الرفقِ بالحيوانِ والنباتِ والاقتصادِ في استخدامِ المواردِ.

قالَ النبيُّ ﷺ: "إنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ" [صحيح مسلم]

وهذا المفهومُ امتدَّ ليشملَ كلَّ المخلوقاتِ، فكانَ المسلمونَ يستشعرونَ أنَّ الكونِ شاهدٌ على أفعالِهمْ، كما في الأحاديثِ التي تُبيّنُ أنَّ الدوابَّ قدْ تشهدُ على منْ ظلمها يومَ القيامةِ.

تشجيعُ البحثِ العلميِّ

كذلكَ أصبحَ البحثُ في أسرارِ الكونِ وقوانينهِ نوعاً منَ العبادةِ والتقربِ إلى اللهِ، مما شجعَ على ازدهارِ العلومِ الطبيعيةِ في الحضارةِ الإسلاميةِ، حيثُ كانَ العلماءُ ينظرونَ إلى الكونِ ككتابٍ مفتوحٍ يُفضي إلى معرفةِ الخالقِ.

الكون الواعي بين التوظيف الإيجابي والإفراط

استشعرَ المسلمونَ عبرَ تاريخهمْ الطويلِ حقيقةَ الكونِ الواعي كتجربةٍ روحيةٍ حيةٍ، مستندينَ إلى آياتِ القرآنِ والسنةِ النبويةِ. تطورَ هذا الفهمُ منَ البساطةِ المباشرةِ عندَ الصحابةِ إلى العمقِ الفلسفيِّ عندَ المفكرينَ والشهودِ الروحيِّ عندَ المتصوفةِ.

المبالغات والإفراط في توظيف مفهوم الكون الواعي

حذر العلماء من بعض المبالغات في هذا المجال، مثل:

المبالغة في سماع التسبيح

أقوالُ السلفِ تؤكدُ أنَّ جميعَ المخلوقاتِ تسبّحُ اللهَ تعالى، ولكنَّ هذا التسبيحَ لا يدركهُ البشرُ بحواسهمْ العاديةِ، ولا يمكنُ سماعهُ إلا بإذنِ اللهِ تعالى. ولذلكَ فإنَّ ادعاءَ سماعِ تسبيحِ المخلوقاتِ، دونَ دليلٍ شرعيٍّ أو كشفٍ ربانيٍّ يعدُّ مخالفاً لفهمِ السلفِ الصالحِ.

الاتجاه نحو وحدة الوجود

يشددُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في نقدهِ لمسائلِ التصوفِ الفلسفيِّ على أنَّ بعضَ منْ غالى في فهمِ تسبيحِ الموجوداتِ ودلالاتهِ، قدْ انحرفَ حتى وقعَ في عقيدةِ وحدةِ الوجودِ.

ويؤكدُ أنَّ هذا يعدُّ ضلالاً وانحرافاً عظيماً عنِ التوحيدِ الصافي مبيناً أنَّ المخلوقاتِ وإنْ كانتْ مسبحةً للهِ تعالى، إلا أنها ليستْ عينَ اللهِ ولا صفاتهِ، بلْ هيَ متميزةٌ عنهُ بحدودِ المخلوقيةِ والعبوديةِ.

درءُ تعارضِ العقلِ والنقلِ لابنِ تيميةَ، في مواضعَ متعددةٍ منَ الكتابِ التي تتناولُ نقدَ وحدةِ الوجودِ

تقديس الطبيعة

يشددُ علماءُ المسلمينَ على أنَّ الوعيَ بتسبيحِ الكونِ وما فيهِ منْ بديعِ الصنعِ، يجبُ ألا يتحولَ إلى تقديسٍ للطبيعةِ ذاتها. فالمخلوقاتُ وإنْ كانتْ تسبحُ وتشهدُ بعظمةِ الخالقِ، إلا أنها في جوهرها مخلوقةٌ عابدةٌ وليستْ معبودةً مقدسةً.

إنَّ التوحيدَ الخالصَ يقتضي صرفَ العبادةِ والتقديسِ للهِ وحدهُ سبحانهُ وتعالى، الذي خلقَ كلَّ شيءٍ وجعلهُ مسبحاً لهُ.

يمثل فهم الكون كنظام واعٍ مسبح في التراث الإسلامي باباً واسعاً للتأمل الروحي وتعميق الوعي الإنساني بالذات والوجود. إن استشعار المسلم للكون كخلق حي واعٍ يلهمه الشعور بالانتماء لمنظومة متكاملة، ويحفزه على التناغم الروحي مع الكون والخالق.

المبحث الثاني: تجارب الصحابة مع الكون الواعي

عاش الصحابة رضوان الله عليهم حقيقة الكون الواعي تجربةً روحيةً مباشرة. تميزَ فهمُ الصحابةِ الكرامِ والسلفِ الصالحِ للكونِ الواعي بالبساطةِ والعمقِ في آنٍ واحدٍ. كانوا يرونَ الكونِ بأكملهِ شاهداً على عظمةِ اللهِ، مسبحاً بحمدهِ.

لقدْ عاشَ الصحابةُ الكرامُ تجربةً فريدةً، تميزتْ بكونهمْ شهوداً على معجزاتٍ نبويةٍ خارقةٍ، كشفتْ لهمْ جانباً منْ وعيِ الكونِ واستجابتِهِ. وقدْ استشعروا هذا الوعيَ العميقَ في تعاملهمْ معَ الجماداتِ:

حنينُ الجذعِ: معجزة نبوية تكشف وعي الجماد

حديث حنين الجذع إلى رسول الله ﷺ

روى أنسُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ كانَ يخطبُ إلى جذعِ نخلةٍ، فلما اتخذوا لهُ المنبرَ وتحولَ إليهِ، حنَّ الجذعُ، فأتاهُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ فمسحَ عليهِ، فسكتَ.

قالَ أنسٌ: "فكنا نسمعهُ يئنُّ أنينَ الصبيِّ، حتى سكتَ".

هذا المشهدُ تركَ أثراً عميقاً في نفوسِ الصحابةِ والسلفِ.

وقدْ وردَ في كتابِ "الزهدُ" للإمامِ عبدِ اللهِ بنِ المباركِ، عنِ الحسنِ البصريِّ رحمهُ اللهُ، أنهُ قالَ:

"يا معشرَ المسلمينَ، الخشبةُ تحنُّ إلى رسولِ اللهِ ﷺ شوقاً إليهِ، أفليسَ الرجالُ الذينَ يرجونَ لقاءهُ أحقَّ أنْ يشتاقوا إليهِ؟"

هذا القولُ يظهرُ تأثرَ الحسنِ البصريِّ بحديثِ حنينِ الجذعِ، ويعبرُ عنْ مشاعرِ الشوقِ والمحبةِ للنبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، مستدلاً بحنينِ الجمادِ إليهِ، ومشيراً إلى أنَّ البشرَ أولى بهذا الشوقِ.

تسبيحُ الرعدِ: استشعار الصحابة لتسبيح الظواهر الطبيعية

ابن عباس وتسبيح الرعد

كانَ ابنُ عباسَ رضيَ اللهُ عنهما إذا سمعَ الرعدَ قالَ:

"سبحانَ منْ يسبحُ الرعدُ بحمدهِ والملائكةُ منْ خيفتهِ"

ابنُ أبي شيبةَ، المصنفُ

وهذا يبينُ كيفَ كانوا يستحضرونَ المعنىْ القرآنيَّ بأنَّ الظواهرَ الطبيعيةَ نفسها تسبحُ للهِ.

علاقةُ الصحابةِ بالطبيعةِ والحيوانات

كانَ الصحابةُ يستشعرونَ وعيَ الطبيعةِ ، مما انعكسَ على علاقتهمْ بها وسلوكهمْ تجاهها:

الجبالُ تُحبُّ وتُحبُّ

حب جبل أحد للنبي ﷺ

منْ أروعِ الأمثلةِ على استشعارهمْ لوعيِ الجماداتِ، ما وردَ عنِ النبيِّ ﷺ عنْ جبلِ أحدٍ في المدينةِ، حيثُ قالَ:

"هذا جبلٌ يحبناْ ونحبهُ." [صحيح مسلم]

هذا الحديثُ يرسخُ فكرةَ الحبِّ المتبادلِ بينَ الإنسانِ والجمادِ، وهوَ ما كانَ الصحابةُ يدركونهُ ويعيشونهُ.

مع الجمال والدواب: رحمة عمر بن الخطاب وأبي الدرداء

عمر بن الخطاب ورفقه بالدواب

كانَ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ مثالاً حياً لهذا التعاملِ الرفيقِ معَ الحيواناتِ، فقدْ روىْ المسيبُ بنُ دارٍ أنهُ رأىْ عمرَ بنَ الخطابِ يضربُ جملاً وقالَ:

"لمْ تحملْ على بعيركَ ما لا يطيقُ؟"

عونُ الودودِ لتيسيرِ ما في السلسلةِ الصحيحةِ منَ الفوائدِ والردودِ - المكتبةُ الشاملةُ الحديثةُ

كما نقلَ ابنُ سيرينَ أنَّ عمرَ رأىْ رجلاً يجرُّ شاةً ليذبحها، فضربهُ بالدرةِ وقالَ:

"سُقها لا أمَّ لكَ إلى الموتِ سوقاً جميلاً"

وفي موقفٍ آخرَ يظهرُ حساسيتهُ تجاهَ معاناةِ الحيوانِ، رأىْ رجلاً يحدُّ شفرتهُ أثناءَ الذبحِ، فضربَ عمرُ بالدرةِ وقالَ:

"أتعذبُ الروحَ؟! ألا فعلتَ هذا قبلَ أنْ تأخذها؟"

عبد الله بن عمر ومسؤولية الراعي

امتدَّ هذا الوعيُ الرحيمُ إلى أبناءِ الصحابةِ، فعبدُ اللهِ بنُ عمرَ رأىْ راعيَ غنمٍ في مكانٍ قبيحٍ وقدْ رأىْ مكاناً أمثلَ منهُ، فقالَ ابنُ عمرَ:

"ويحكَ يا راعيْ، حولها فإنيْ سمعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: كلُّ راعٍ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ"

وعندما رأىْ أولاداً اتخذوا طائراً حياً هدفاً يرمونهُ بالحجارةِ، لعنَ اللهَ منْ اتخذَ هذا غرضاً [رواهُ مسلمٌ].

أبو الدرداء وجمله "دمون"

تجلتْ هذهِ الرحمةُ أيضاً في علاقةِ أبي الدرداءِ بجملهِ الذي يسمىْ "دمون"، حيثُ كانَ إذا أعارهُ للصحابةِ يقولُ:

"لا تحملوا عليهِ إلا كذا وكذا فإنهُ لا يطيقُ أكثرَ منْ ذلكَ"

وعندما حضرتهُ الوفاةُ قالَ:

"يا دمونُ لا تخاصمنيْ غداً عندَ ربيْ فإنيْ لمْ أكنْ أحملُ عليكَ إلا ما تطيقُ"

عمر بن عبد العزيز والبغل

وصل هذا الوعي الأخلاقي إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، الذي كان له غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاء يوماً بدرهم ونصف، فقال:

"أما بدا لك؟"

قال: "نفقت السوق"

فقال عمر: "لا، ولكنك أتعبت البغل، أرحه ثلاثة أيام"

كان الصحابة يسمون كل ما يملكون من بهائم وسلاح وأشياء بأسماء حانية، مما يدل على الارتباط العاطفي والمسؤولية تجاهها. هذا التعامل لم يكن مجرد رحمة إنسانية، بل كان نابعاً من فهم عميق لطبيعة الكون الواعي المسبِّح لله، والإيمان بأن كل كائن في هذا الكون له وعي وإدراك يستحق الاحترام والرحمة.

الدروس المستفادة من تجارب الصحابة

  • الإيمان العميق بوعي المخلوقات وتسبيحها لله تعالى
  • الرفق والرحمة بجميع الكائنات الحية
  • الشعور بالمسؤولية تجاه المخلوقات المسخرة للإنسان
  • فهم أن الكون كله منظومة متكاملة من العبودية لله
  • ترجمة الإيمان إلى سلوك عملي راقٍ في التعامل مع الكون

هذه المواقف تُظهر كيف ترجم الصحابة فهمهم للكون الواعي إلى سلوك عملي راق، يجمع بين الاستفادة المشروعة من الحيوانات والرفق بها، ويعكس إدراكهم العميق لكونهم جزءاً من منظومة كونية متكاملة، كل عنصر فيها يسبح بحمد خالقه ويستحق المعاملة الكريمة.

المبحث الثالث: تجارب التابعين والسلف مع الكون الواعي

إرث البصيرة وشهادة الوجود

بعد أن أشرق نور النبوة على قلوب الصحابة الكرام، وأبصروا الكون بعيونٍ جديدةٍ، لم ينقطع هذا النور بانتهاء عصرهم، بل توارثه جيلٌ من التابعين والسلف الصالح، الذين حملوا أمانة الإيمان وتعمّقوا في فهم أسرار الوجود.

لقد أدرك هؤلاء العظام أن الكون بأسره يسبح بحمد خالقه، وأن هذا التسبيح ليس مجرد فعلٍ آليٍّ، بل هو نغمٌ حيٌّ، وإدراكٌ خفيٌّ، يتجلى لمن صفت روحه وعمقت بصيرته.

عمق البصيرة وتجاوز الظاهر

يُعد مفهوم تسبيح الكون من الحقائق القرآنية الثابتة التي شكلت حجر الزاوية في فهم السلف الصالح للوجود. وقد أكد المفسرون من السلف على شمولية هذا التسبيح.

﴿وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾

إن العبارة القرآنية "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" تحمل في طياتها دلالة عميقة على أن التسبيح الكوني يتم بلغة أو طريقة تتجاوز الإدراك البشري العادي.

إدراك السلف لتسبيح الجماد

حادثة حنين الجذع: تُعد حادثة حنين الجذع إلى رسول الله ﷺ من المعجزات النبوية البارزة، وقد كانت بمثابة درس عظيم للتابعين لتعزيز إيمانهم بوعي الجمادات.

ورد أن الحسن البصري كان إذا قرأ قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلّهِ﴾ يقول: "يا ابن آدم، ظلك يسجد لله تعالى، وأنت لا تسجد لله، فبئس والله ما صنعت".

(ورد في النكت والعيون)

اختلاف التابعين وإجماعهم

رغم اختلاف التابعين في تفاصيل التسبيح الكوني، إلا أنهم اتفقوا على أن التسبيح حقيقي وليس مجازياً. هذا الإجماع يدل على أنهم شهدوا تجارب حقيقية مع الكون المسبح.

  • مجاهد وإبراهيم النخعي: رأوا شمولية التسبيح لجميع المخلوقات
  • الحسن البصري وقتادة: قصروا التسبيح على ما فيه حياة ونمو
  • عكرمة: ميز بين أنواع المخلوقات في التسبيح

ورد أن بعض التابعين استدلوا على حقيقية التسبيح بقوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ﴾، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة، لما كان لداود عليه السلام خصوصية على غيره.

المبحث الرابع: الكون الواعي في تراث العلماء والمفسرين

رؤى العلماء والفلاسفة المسلمين للكون المسبِّح

يُعد مفهوم "الكون الواعي" من المفاهيم العميقة والمتجذرة في الفكر الإسلامي، سواء في نصوصه التأسيسية من القرآن والسنة، أو في تفسيرات علمائه وفلاسفته وصوفييه. يشير هذا المفهوم إلى أن جميع مكونات الوجود، من جمادات ونباتات وحيوانات، ليست مجرد كتل صامتة أو آليات صماء، بل هي كائنات تدرك خالقها وتسبح بحمده بطرق تليق بها.

الإمام ابن كثير والتسبيح الكوني

يُعتبر الإمام ابن كثير من أبرز علماء التفسير، وقد أكد على أن تسبيح المخلوقات لله تعالى هو تسبيح حقيقي وليس مجازياً.

﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

يُبرز هذا التفسير التزاماً راسخاً بالمعنى الظاهر للنص القرآني، مؤكداً أن كل ما في الوجود، بما في ذلك الجمادات، يمتلك شكلاً من أشكال الوعي والتسبيح الخاص به.

(ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، سورة الإسراء، الآية 44)

الإمام الطبري وتفسير الوعي الكوني

يُظهر تفسير الطبري أن الخطاب القرآني يمنح الجمادات نوعاً من الإدراك والقدرة على الاستجابة. ويُعزز هذا الفهم بما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى:

﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾

فقد فسر ابن عباس هذه الآية بأن الله أمر السماوات أن تطلع شمسها وقمرها ونجومها، وأمر الأرض أن تشقق أنهارها وتخرج ثمارها، فكان ردهما "أتينا طائعين".

الإمام القرطبي وتسبيح الجمادات

يُقرر الإمام القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" حقيقة تسبيح الجمادات، ويرد بقوة على من ينكر ذلك. ويُؤكد أن:

"إن اعتماد القرطبي على المعجزات كبرهان قاطع على تسبيح الجمادات الحقيقي، يُعزز الموقف العقدي الذي يرى في الكون كياناً حياً يتفاعل مع خالقه، ويُظهر أن هذا التسبيح ليس مجرد رمز أو دلالة، بل هو فعل مباشر من خلق الله وقدرته."

ابن سينا والوعي الكوني: النفس الكلية وتسبيح المخلوقات

يُعد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (370-428هـ/980-1037م)، الملقب بالشيخ الرئيس، أحد أبرز فلاسفة الإسلام. لقد سعى ابن سينا في فلسفته إلى التوفيق بين النور الإلهي الوارد في الشريعة، وما ورثه من كنوز الفلسفة اليونانية.

مراتب الوجود والوعي عند ابن سينا

  • العقول المفارقة: أعلى المراتب، ولها إدراك تام وشامل (الملائكة الكرام)
  • نفوس الأفلاك: لها إدراك واسع أقل من إدراك العقول
  • النفس الناطقة الإنسانية: لها إدراك عقلي وحسي محدود
  • النفس الحيوانية: لها إدراك حسي وتخيلي بدون قدرة على التجريد العقلي
  • النفس النباتية: لها إدراك بسيط مرتبط بوظائفها الأساسية
  • الجمادات: لها نوع من الإدراك الفطري المرتبط بخصائصها الطبيعية

خواص الأحجار الكريمة

يذكر ابن سينا في "القانون في الطب" عن بعض الأحجار: "للأحجار الكريمة خواص عجيبة تدل على استجابة ذكية للمؤثرات".

(ابن سينا، القانون في الطب، ج 2، ص 357)

الإمام الغزالي والرؤية الحية للكون

يُعد الإمام أبو حامد الغزالي (450-505هـ)، الملقب بـ"حجة الإسلام"، من أعظم علماء المسلمين تأثيراً في الفكر الإسلامي. وقد قدم في كتاباته رؤية متكاملة حول علاقة الإنسان بالكون وعلاقة الكون بخالقه.

الأساس المعرفي للكون المسبح عند الغزالي

1. الأساس النقلي: يستند الغزالي إلى الآيات القرآنية التي تتحدث عن تسبيح المخلوقات:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [الإسراء: 44]

2. الأساس العقلي: يطرح الغزالي في "المقصد الأسنى" أن كل موجود في الكون يعكس أسماء الله الحسنى وصفاته.

3. الأساس الكشفي: يرى الغزالي أن من وصل إلى مراتب عالية في المعرفة القلبية يمكنه إدراك تسبيح الموجودات، كما يشير في "مشكاة الأنوار" بقوله: "فمن انكشف له سر الملكوت سمع تسبيح الحصى والمدر".

(مشكاة الأنوار، ص 79)

مراتب وعي المخلوقات وتسبيحها

  1. الملائكة: أعلى المخلوقات في التسبيح والوعي، لأنهم خُلقوا للتسبيح والعبادة (إحياء علوم الدين، 4/304)
  2. الإنسان: يتميز بالوعي الاختياري والتسبيح الإرادي (إحياء علوم الدين، 1/135)
  3. الحيوانات: لها نصيب من الوعي والتسبيح يناسب فطرتها
  4. النباتات والجمادات: لها تسبيح خاص بها لا يدركه الإنسان العادي (إحياء علوم الدين، 4/306)

يقول الغزالي في "إحياء علوم الدين": "ولا تحسبن الجماد جماداً لا حياة فيه، فإن تسبيحه لخالقه يدل على نوع من الحياة والإدراك وإن خفي علينا".

(إحياء علوم الدين، 4/306)

ابن القيم ومفهوم تسبيح الكون لله

يُعد الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية (691-751هـ) من أبرز علماء الإسلام الذين أثروا المكتبة الإسلامية بمؤلفات قيمة. تميزت رؤيته للكون بالعمق والشمولية.

يقول ابن القيم في "مدارج السالكين": "التسبيح المذكور في القرآن الكريم هو تسبيح حقيقي لا مجازي، وهو من نعم الله على خلقه أن جعلهم مسبحين بحمده، فكل ذرة في الكون تشهد بوحدانية الله وتنزهه عن كل نقص".

دلالة تسبيح الكون على وحدانية الله

يؤكد ابن القيم أن الكون بأكمله منظومة متكاملة من الشهادة لله بالوحدانية والتسبيح له بالعظمة، وهو ما يعطي بعداً كونياً شاملاً لمفهوم العبادة.

العلاقة بين تسبيح الكون والنظام الكوني

يربط ابن القيم بين تسبيح الكائنات وانتظام الكون، فيرى أن تسبيح المخلوقات مظهر من مظاهر انقيادها لأمر الله وخضوعها لمشيئته، وهو ما يحفظ النظام الكوني ويمنع الاختلال.

(مدارج السالكين، شفاء العليل)

ابن تيمية وتسبيح الكون الواعي

يُعد شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية (661-728هـ) من أبرز علماء الإسلام وأكثرهم تأثيراً في الفكر الإسلامي. امتاز بمنهجية متميزة في التعامل مع النصوص الشرعية وفهمها.

يرد ابن تيمية على من تأول النصوص في هذا الباب بقوله: "وقد يتأول بعضهم قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ بأنه تسبيح دلالة لا تسبيح نطق، وهذا خلاف ظاهر النص، فإن الله قال: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ولو كان تسبيح دلالة لكان معلوماً مفهوماً".

(مجموع الفتاوى، 16/220)

أنواع التسبيح عند ابن تيمية

  • التسبيح القولي الاختياري: خاص بالمخلوقات المكلفة كالإنسان والجن والملائكة
  • التسبيح الفطري: يشمل جميع المخلوقات بما فيها الجمادات، ويكون بمقتضى فطرتها

الحكمة من تسبيح المخلوقات

  1. إظهار عظمة الله: "تسبيح المخلوقات لله إظهار لعظمته وكمال قدرته" (مجموع الفتاوى، 16/232)
  2. الشهادة بوحدانية الله: "كل ذرة في الكون شاهدة بوحدانية الله، ناطقة بتسبيحه" (درء تعارض العقل والنقل، 9/243)
  3. تحقيق العبودية: "ما من مخلوق إلا وهو عابد لله" (مجموع الفتاوى، 10/185)

الأثر التربوي

يستنبط ابن تيمية آثاراً تربوية مهمة:

  • الاعتبار والتفكر: "ومن تأمل تسبيح المخلوقات لربها، ازداد إيماناً وخشية" (مجموع الفتاوى، 16/235)
  • الخشوع والتواضع: "إذا علم العبد أن الجمادات تسبح بحمد ربها، فهو أولى بذلك" (جامع المسائل، 4/127)

المبحث الخامس: التجربة الصوفية واستشعار وعي الكون

رحلة روحية في استكشاف الوعي الكوني

تمثل التجربة الصوفية في الإسلام رحلة روحية فريدة نحو استشعار الوجود وأسراره، والاتصال بالحقائق الكونية على نحو مباشر، متجاوزة الوسائط المعرفية المعتادة من عقل وحس.

يعد مفهوم "الوعي الكوني" وتسبيح المخلوقات من المفاهيم المركزية في الفكر الصوفي، حيث يرى أعلام التصوف أن الكون بأسره كيان حي مدرك، يسبح بحمد خالقه بلسان الحال أو المقال.

الإمام الجنيد ومفهوم الفناء في وعي الكون

يُعد أبو القاسم الجنيد البغدادي (215-298هـ) من أوائل من تكلم في "علم التوحيد" و"الفناء". ارتبط مفهوم الوعي الكوني عنده بنظريته في الفناء التي تعني فناء العبد عن إرادته ووعيه الفردي، وبقاءه بإرادة الله ووعيه الكوني الشامل.

رابعة العدوية والحب الإلهي

تُعد رابعة العدوية (95-185هـ) من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ التصوف الإسلامي، ومن أوائل من أسست لمفهوم "الحب الإلهي" كطريق للمعرفة والوصول إلى الوعي الكوني.

"من أعمق النصوص التي تكشف عن رؤية رابعة للوعي الكوني، مناجاتها الليلية: 'إلهي قد هدأت الأصوات وسكنت الحركات، وأنت الحي القيوم لا تأخذك سنة ولا نوم'"

ابن عربي والكون المسبح: نظرية الوجود الواعي

يُعد الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي (560-638هـ) أحد أعظم المتصوفة الذين قدموا رؤية شاملة للكون الواعي وتسبيح المخلوقات.

طرح ابن عربي مفهوم "نفس الرحمن" كأساس لفهم الكون المسبح، حيث يرى أن جميع الموجودات هي كلمات وحروف منطوقة في النفس الرحماني.

جلال الدين الرومي والوعي الكوني

يُعد جلال الدين الرومي (604-672هـ) من أعظم الشعراء الصوفيين في التاريخ الإسلامي. يؤمن الرومي بأن الكون بأسره ليس مجرد مادة صامتة، بل هو كيان حي يتنفس، وكل ما فيه يتحرك بإيقاع إلهي.

في "المثنوي" يقول: "كل جزء من هذا الكون يشهد بوحدانية الله، وكل ذرة تنطق بأسمائه الحسنى".

يرى الرومي أن الكون كله كائن حي متصل بالله، وأن الحب هو القوة الكونية الدافعة التي تحرك الوجود وتفسر تجلياته المتنوعة.

التجربة الصوفية في ميزان أهل السنة

تعرضت التجربة الصوفية لانتقادات من علماء المنهج السلفي، الذين يؤكدون على ضرورة الالتزام بالنصوص الشرعية وفهم السلف الصالح. وتتمحور الانتقادات حول:

  • الغلو في تأويل النصوص
  • الاعتماد على الكشف والذوق بدل النصوص الشرعية
  • الخلط بين الحقائق الشرعية والفلسفات الأجنبية
  • الوقوع في الشطحات المخالفة للعقيدة
  • المبالغة في إثبات الحياة والوعي للجمادات

ومنهج السلف يدعو إلى التمييز بين من اتبع منهجاً معتدلاً من المتصوفة، ومن غالى وشط في أقواله وأفعاله.

المبحث السادس: أثر الوعي الكوني على السلوك المسلم

الانعكاسات العملية لاستشعار وعي الكون

عندما يستشعر المسلم وجود وعي في الكون كله، وأن كل مخلوق يسبح بحمد الله، فإن ذلك ينعكس على سلوكه في جوانب متعددة من حياته.

1. التواضع الوجودي

يولّد إدراك أن كل ذرة في الكون تعبد الله وتسبح بحمده شعوراً بالتواضع لدى المسلم، فيدرك أن العالم كله في عبادة مستمرة لله تعالى.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع"

2. التأمل والتفكر في آيات الله

استشعار الوعي الكوني يدفع المسلم للتفكر في آيات الله وعجائب صنعه، مما يزيد إيمانه ويقينه.

ابن القيم الجوزية

"أحسن ما أُنفقت فيه الأنفاسُ التفكر في آيات الله وعجائب صنعه، والانتقال منها إلى تعلق القلب والهمة به دون شيء من مخلوقاته."

(مفتاح دار السعادة)

3. المسؤولية الأخلاقية والسلوكية

الوعي بأن المخلوقات كلها تسبح بحمد الله يدفع المسلم إلى تهذيب سلوكه والارتقاء بأخلاقه، فيستحيي من المعصية ويلتزم بطاعة الله.

4. الرفق بالمخلوقات والحيوان

استشعار أن الحيوانات والنباتات وكل المخلوقات تسبح بحمد الله يجعل المسلم يتعامل معها برفق ورحمة، ويراعي حقوقها.

من سيرة عمر بن عبد العزيز

ورد في سيرة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى صاحب السكك: "أن لا يحملوا أحداً بلجام ثقيل من هذه الرستنية ولا ينخس بمقرعة في أسفلها حديدة".

وأمر غلاماً له بأن يجم بغله (أي يريحه) أياماً ثلاثة بعدما أتعبه بأن دار به في السوق.

5. الإلهام الروحي والإبداعي

التأمل في الكون المسبح شكل مصدراً دائماً للإلهام الروحي والإبداعي لدى المسلمين:

  • في العلوم: اهتم العلماء المسلمون بدراسة الطبيعة كمجال للتأمل في آيات الله
  • في الفن والعمارة: استلهم الفنانون من الكون المسبح في تصاميمهم وزخارفهم
  • في الشعر والأدب: تفيض المكتبة الإسلامية بالقصائد التي تتغنى بالكون وبديع صنع الله

قال أبو نواس في وصف النرجس:

تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثـار مـا صـنـع المليك

عــيــون مــن لجــيـن شـاخـصـات بـأحـداق كـمـا الذهب السبيك

عـلى قـضـب الزبـرجد شاهداتٌ بـــأن الله ليـــس له شــريــك

الخاتمة

رؤية كونية متكاملة

في نهاية رحلتنا عبر تجارب الكون الواعي في التراث الإسلامي، نجد أنفسنا أمام رؤية كونية فريدة ترتقي بالوجود من مجرد مادة صماء إلى كيان نابض بالحياة، مسبِّح بحمد خالقه، مستجيب لأمره.

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾

لقد استشعر المسلمون، من الصحابة إلى السلف والتابعين والصوفية والمفكرين، هذه الحقيقة بقلوبهم قبل عقولهم، فعاشوا في تناغم روحي مع الكون، وأدركوا أن كل ذرة فيه تشترك معهم في منظومة العبودية الكونية.

كانت تجربة الصحابة تجسيداً حياً لهذا الوعي، حين سمعوا حنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم، وحين رأوا الجبال تحب وتُحب، فأدركوا أن الوجود ليس جامداً كما يظهر للعين المادية.

وفي تجارب التابعين والسلف، تعمقت هذه الرؤية وتجذرت في ممارسات حياتية يومية، تجلت في رفقهم بالمخلوقات، ورحمتهم بالضعيف.

وصاغ الفلاسفة كابن سينا نظريات فلسفية تربط بين الوعي الكوني ومفهوم العقل الفعال، وطور ابن رشد موقفاً فلسفياً يدمج بين العقل والنقل.

وكان للمتصوفة تجارب خاصة في استشعار وعي الكون، فرأى الجنيد في الفناء بوابة للدخول في الوعي الكوني، وتغنى ابن الفارض بوحدة الكون، وصاغ ابن عربي نظرية متكاملة للكون المسبح، وأضاء السهروردي طريق الإشراق.

وهكذا، فإن رؤية الكون كمخلوق واع مسبِّح ليست مجرد نظرية فلسفية أو تأمل صوفي، بل هي دعوة متكاملة لإعادة الاتصال بالذات والكون والخالق في آن واحد، دعوة تجعل المسلم مشاركاً في سيمفونية كونية متناغمة تتجه إلى الخالق العظيم.

فالكون في جوهره ليس مادة صماء بل روح مسبِّحة، والوجود ليس آلة عمياء بل كتاب مفتوح، والمخلوقات ليست موضوعات للاستغلال بل شركاء في التسبيح والعبودية.

هذا هو جوهر الرؤية الإسلامية للكون الواعي، تلك الرؤية التي عاشها أسلافنا وتركوا لنا إرثاً روحياً وفكرياً ثرياً، يستحق منا التأمل والاستلهام والإحياء، خاصة في عالمنا المعاصر الذي يعاني من أزمات روحية وبيئية خطيرة.

والله أعلم وأحكم