🌐 www.universe-melodies.com

الفصل الحادي عشر

السماوات السبع والأكوان المتعددة: تكامل المنظور القرآني والعلمي

رحلة استكشافية عميقة في تقاطع الدين والعلم الحديث

مقدمة: بين أنوار الوحي وآفاق العلم

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾

(الطلاق: 12)

في رحاب الكون الفسيح، حيث النجوم المتلألئة تشهد على عظمة الخالق، وحيث المجرات المتباعدة ترسم لوحة الإبداع الإلهي، يتجلّى لنا الوجود ككتاب مفتوح، كل سطر فيه يوقظ فينا شعورًا بالرهبة… ونداءً إلى التسبيح.

في كل يوم تكتشف فيه البشرية سرًّا جديدًا من أسرار الكون، تزداد يقينًا بأن وراء هذا النظام المحكم حكمة مطلقة، وعلماً لا يُحد. ويظل القرآن الكريم، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، يُشير بإشاراته العميقة إلى حقائق ما زال العلم الحديث يلهث لفهمها.

في هذا الفصل، نقف أمام واحدة من أعظم تلك الإشارات الكونية: فكرة "الأكوان المتعددة"، أو بتعبير القرآن: "السماوات السبع". وإذا كانت هذه الآية الكريمة — في سورة الطلاق — قد أشارت إلى وجود سبع سماوات، بل وأراضٍ مثلهن، فهي بذلك تفتح أفقًا لفهم تعددية البُنى الكونية، وتُلمّح إلى واقع أعظم من أن يُختصر في كونٍ واحد.

يقول الدكتور منصور أبو شريعة في بحثه "الأكوان المتعددة في القرآن الكريم والعلم الحديث": "لقد أكد القرآن الكريم بشكل صريح وواضح في آيات كثيرة على وجود أكوان أخرى غير هذا الكون المشاهد الذي نعيش فيه، وهي مأهولة بأنواع مختلفة من الكائنات العاقلة. وفي المقابل، تشير النظريات العلمية الحديثة في مجالي الفيزياء والفلك إلى احتمالية كبيرة بوجود أكوان أخرى غير كوننا هذا، أطلقوا عليها أسماء مختلفة كالأكوان المتوازية والأكوان المتعددة والأكوان اللانهائية والأكوان الفقاعية"

(أبو شريعة، 2018، ص.3)

في هذه الرحلة المعرفية، سنبحر بفكرنا بعيداً في رحاب هذه الآية الكريمة، مستكشفين الصلة العميقة بين ما أخبرنا به الوحي وما توصل إليه العلم الحديث، ومتأملين في عوالم الأكوان المتعددة وتسبيحها للخالق العظيم.

المبحث الأول: مفهوم الأكوان المتعددة في القرآن الكريم

تناول القرآن الكريم موضوع السماوات والأرض بصورة مفصلة في آيات عديدة، ويشير إلى خلق الله للسماوات السبع والأراضين السبع. وقد ورد ذكر السماوات السبع صراحةً في القرآن، أما الأراضون السبع فقد استُدلَّ على وجودها من خلال تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾.

السماوات السبع في القرآن الكريم

ورد ذكر السماوات السبع صراحةً في آيات عديدة من القرآن الكريم، مما يؤكد أنها حقيقة كونية ثابتة. من هذه الآيات:

  • ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: 3]
  • ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ [نوح: 15]
  • ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [فصلت: 12]

💡 الخلاصة: يتضح من هذه الآيات أن السماوات سبع، وأنها مرتبة طباقاً فوق بعضها البعض. وقد وصفت الآيات السماء الدنيا (الأقرب إلينا) بأنها مزينة بالمصابيح (النجوم).

الأراضين السبع في القرآن الكريم

لم يرد في القرآن الكريم ذكر صريح للأراضين السبع بهذا اللفظ، إنما استُدلَّ على وجودها من خلال قوله تعالى:

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]

دلالات مصطلح "مِثْلَهُنَّ" في قوله تعالى

اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ على عدة أقوال:

القول الأول: المماثلة في العدد
يرى أصحاب هذا القول إن المقصود من "مِثْلَهُنَّ" أي مثل السماوات السبع في العدد فقط، أي أن الأرضين سبع كما السماوات سبع، وهذا هو قول جمهور المفسرين. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾: "أي: سبعًا أيضًا".

القول الثاني:
ويرى أصحاب القول الثاني أن المقصود من "مِثْلَهُنَّ" ليس العدد، بل المماثلة في الخلق والإبداع والإحكام. لكن هذا القول ضعيف، ورجح القرطبي وغيره القول الأول.

تنزل الأمر بين السماوات والأراضين: دلالاته ومعانيه

في قوله تعالى: ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ إشارة إلى انتقال أمر الله وقضائه وأحكامه بين السماوات والأراضين. وللمفسرين في معنى "الأمر" وكيفية تنزله عدة أقوال:

المعنى الأول: الأمر الكوني والقدري
ينزل أمر الله الكوني (القدري) بين السماوات والأرض، فينفذ قضاؤه في جميع خلقه. قال السعدي رحمه الله: "وأنزل الأمر، وهو الشرائع والأحكام الدينية التي أوحاها إلى رسله لتذكير العباد ووعظهم، وكذلك الأوامر الكونية والقدرية التي يدبر بها الخلق."

المعنى الثاني: الأمر الشرعي
ينزل أمر الله الشرعي (الوحي) من السماء إلى الأرض عن طريق الملائكة إلى الرسل. جاء في تفسير الطبري عن مجاهد في قوله: ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ قال: "من السماء السابعة إلى الأرض السابعة."

والحكمة من تنزُّل الأمر بين السماوات والأرض بيّنها الله في نهاية الآية: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾. فالهدف هو إظهار قدرة الله المطلقة، وإحاطة علمه بكل شيء، وإقامة الحجة على الناس.

آراء المفسرين في تعدد الأكوان

لم يتناول المفسرون القدامى مصطلح "تعدد الأكوان" بالمفهوم العلمي الحديث، ولكن تناولوا موضوع السماوات السبع والأراضين السبع. أما في العصر الحديث، فقد ظهرت توجهات تربط بين مفهوم السماوات السبع في القرآن ونظرية الأكوان المتعددة في الفيزياء الفلكية الحديثة.

1. الرأي التقليدي عند المفسرين
فسر أغلب المفسرين السماوات السبع بأنها سبع طبقات فوق بعضها البعض. وكذلك الأراضين السبع على أنها سبع طبقات من الأرض، واختلفوا في ترتيبها وكيفيتها. قال ابن كثير: "وقد تقدم في سورة الحديد ذكر الأرضين السبع وبُعْد ما بينهن، وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام."

2. الرأي العلمي المعاصر
يرى بعض الباحثين المعاصرين أن مفهوم السماوات السبع في القرآن الكريم يتوافق مع نظرية الأكوان المتعددة (Multiverse) التي طرحها علماء الفيزياء الحديثة. ويرون أن القرآن الكريم أشار إلى وجود أكوان متعددة غير كوننا المشاهد بمصطلح "السماوات السبع".
يقول الدكتور منصور أبو شريعة العبادي: "لقد أكد القرآن الكريم بشكل صريح وواضح في آيات كثيرة على وجود أكوان أخرى غير هذا الكون المشاهد الذي نعيش فيه وهي مأهولة بأنواع مختلفة من الكائنات العاقلة كما جاء في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ."

3. الرأي المحافظ في التعامل مع نظرية تعدد الأكوان
يرى بعض العلماء المعاصرين أن نظرية تعدد الأكوان لا ترقى لأن تكون فرضية علمية مؤكدة، وبالتالي لا ينبغي القطع بها أو ربطها بالنصوص القرآنية بشكل مباشر. جاء في فتوى لموقع إسلام ويب: "ما يعرف بتعدد الأكوان أو الأكوان المتوازية لا يرقى لأن يكون فرضية علمية، فضلًا عن النظرية العلمية! وإنما هو أقرب للخيال والتوهم الفلسفي، العاري عن الأدلة المادية والبراهين العلمية... والقاعدة في مثل هذه الأمور أن تعامل معاملة الغيب، فلا يجوز التعرض لها دون بينة من نقل صحيح، أو عقل صريح."

خلاصة الموضوع

  1. ذكر القرآن الكريم صراحة وجود سبع سماوات.
  2. استدل العلماء على وجود سبع أراضين من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾، وأكدته الأحاديث النبوية الصحيحة.
  3. اختلف المفسرون في معنى "مِثْلَهُنَّ" ويرى الجمهور أن المقصود المماثلة في العدد.
  4. يتنزل الأمر بين السماوات والأراضين يشمل الأمر الكوني والشرعي، وهذا يدل على كمال قدرة الله وإحاطة علمه.
  5. تعددت آراء العلماء في ربط السماوات السبع بنظرية الأكوان المتعددة، ما بين مؤيد لهذا الربط ومحافظ يدعو إلى التوقف فيما لم يأت به الدليل.
  6. يبقى الأسلم الإيمان بما ورد في النصوص الشرعية من وجود السماوات السبع والأراضين السبع، وعدم التكلف في تفسيرها بما لا دليل عليه.

ولقد أكد القرآن الكريم بشكل صريح وواضح في آيات كثيرة على وجود أكوان أخرى غير هذا الكون المشاهد الذي نعيش فيه، وهي مأهولة بأنواع مختلفة من الكائنات العاقلة كما جاء في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ الطلاق 12

لقد نصت الآية السابقة على أن الهدف من إخبار الله عز وجل البشر بوجود سبع سنوات وسبع أراضين هو أولاً للتدليل على قدرته سبحانه وتعالى، وثانياً لإقناع البشر بإحاطة علم الله عز وجل بكل تفصيلات هذا الكون ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾، وثالثاً أن الأمر يتنزل بينهن وهو الوحي، فهم إذن مخلوقات عاقلة مخيرة مثلنا يتنزل إليهم الوحي وتبعث لهم الرسل.

وقد يقول قائل: كيف يتسنى للبشر أن يتأكدوا من وجود سبع سنوات وهم لا زالوا يجهلون كثيراً من مكونات السماء الأولى التي تحجب عن البشر بقية السنوات التي تقع فوقها؟ فالطريقة التي أرادها الله عز وجل للبشر للتأكد من وجود هذه السماوات هي أولاً من خلال استخدام هذا العقل العجيب الذي صنعه الله سبحانه لهم، وثانياً أنه سبحانه خلق جميع مكونات هذا الكون وفق قوانين فيزيائية محددة وعلى مدى فترات زمنية محددة يمكن للبشر الاهتداء إلى مراحل خلقها من خلال البحث العلمي.

المبحث الثاني: بين الخيال العلمي والحقيقة القرآنية

في ظل تسارع عجلة الاكتشافات الكونية، أصبح من الصعب رسم حدود فاصلة بين ما كان يُعد خيالًا علميًا بالأمس، وما يقترب اليوم من أفق الإمكان في مختبرات الفيزياء النظرية. ومن بين هذه الأفكار المثيرة، تبرز "نظرية الأكوان الموازية"، التي حظيت بحضور بارز في الدراما التلفزيونية.

لكي تسبح بفكرك بعيداً في رحاب هذه الآية، أنصحك برؤية مسلسل "فرنج" (Fringe) الذي يحقق في حوادث غامضة تقود في النهاية إلى وجود عالم موازٍ لعالمنا يمكن الذهاب إليه عبر البوابات. يدور مسلسل Fringe حول وحدة بحثية خاصة تابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، تحقق في ظواهر غريبة تتحدى حدود العلم والعقل. مع توالي الحلقات، تتكشف خيوط تقود إلى وجود كون موازٍ لعالمنا، يشبهه كثيرًا، لكنه يختلف في تفاصيل صغيرة تراكمت نتيجة خيارات مختلفة.

في أحد أبرز خطوط المسلسل، نكتشف أن البروفيسور والتر بيشوب، العالم العبقري ذو الماضي الغامض، كان قد فتح بوابة إلى كون موازٍ لإنقاذ "ابنه البديل" من مرض قاتل، بعدما فقد ابنه الحقيقي في عالمه. هذا الحدث المفصلي لم يُحدث فقط تمزقًا في نسيج الواقع بين العالمين، بل أطلق سلسلة من الكوارث البيئية والطبيعية في كلا العالمين، في تلميح إلى أن اختراق الحجب بين الأكوان له تبعات كارثية.

أحد أكثر المفاهيم الفلسفية عمقًا التي طرحها المسلسل هو أن القرارات البشرية لا تنتهي بانعكاسها على هذا العالم فقط، بل قد تؤدي إلى تفرعات كونية مختلفة. في أحد الحوارات العميقة، يقول والتر بيشوب: "الاختيار... هو ما يصنع الفرق. في كل كون، هناك نسخة مختلفة منّا بسبب خيار مختلف اتخذناه ذات يوم."

بين خيال الفن وحقيقة الوحي

هنا تلتقي الفكرة مع التأمل في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] يتأمل بعض المفكرين المعاصرين أن لفظ "مِثْلَهُنَّ" قد يحتمل، ولو ضمنًا، وجود أراضٍ أخرى مشابهة لأرضنا، وهذا ما يلهم بعض الباحثين إلى القول بوجود "عوالم موازية"، في صورة "أكوان متعددة" ضمن الخلق الإلهي الواسع، رغم أن هذا المعنى غير صريح في النص القرآني ويظل في دائرة التأمل.

لكن النقطة المحورية تبقى في أن القرآن لا يمنع تخيل تعدد العوالم، بل يترك الباب مفتوحًا للتأمل بقوله سبحانه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ — بصيغة الجمع، لا المفرد، وهو ما فتح المجال لتفسير "العوالم" بأنها أوسع من عالمنا الأرضي المعروف.

العِظة من وراء الخيال

ما يلفت في تجربة Fringe ليس فقط تصور الأكوان، بل الرسالة الأخلاقية وراءها: أن العلم إذا انفصل عن الحكمة يجرّ الدمار؛ وأن النية الحسنة قد لا تبرر اختراق قوانين الكون دون وعي بالعواقب؛ وأن لكل قرار ثمنًا، ولو بدا تافهًا.

و رغم أن مسلسل Fringe لا يستند إلى مرجعية دينية، إلا أن مضمونه يشجع على استكشاف المعاني الكبرى: هل نعيش في عالم واحد فقط، أم أننا جزء من فسيفساء أوسع؟ وإذا كانت الأكوان متعددة ، فهل تخضع لسنن واحدة أم أن في كل كون سننًا مخصوصة؟ إن القرآن الكريم لا يهدف إلى تقديم "نموذج فيزيائي للكون"، لكنه يفتح آفاقًا للتأمل تتقاطع أحيانًا، بشكل غير مباشر، مع أعمق الأسئلة التي يطرحها العلم والفن، كلٌ من زاويته.

وهكذا، بين حقيقة الوحي وتجربة الخيال، تظل "الأكوان" بابًا مفتوحًا لفهمٍ أعمق لعظمة الخالق، وسعة تدبيره، ودهشة الإنسان أمام سر الوجود. كما يمكن مشاهدة العديد من الأفلام التي تناولت فكرة الأكوان المتعددة بطرق مختلفة، مثل فيلم "Doctor Strange in the Multiverse of Madness" (2022) الذي يستكشف فكرة الكون المتعدد من منظور ملحمي، وفيلم "Everything Everywhere All at Once" (2022) الذي يقدم مقاربة فلسفية أكثر عمقاً للفكرة نفسها (Moskowitz, 2022).

أذكر في ليلة قضيتها في الصحراء أتأمل السماء الصافية وأنا أفكر في احتمالية وجود أكوان أخرى غير كوننا. كنت أنظر إلى النجوم البعيدة وأتساءل: هل هناك عوالم موازية لعالمنا في هذا الفضاء اللامتناهي؟ وهل تعيش فيها كائنات تتأمل السماء كما أتأملها الآن؟ فكرة أن القرآن الكريم أشار إلى وجود سبع سماوات وسبع أراضين قبل أربعة عشر قرناً، عندما لم تكن البشرية تملك حتى التلسكوبات البسيطة، أصابتني بدهشة عميقة وزادت من إيماني بإعجاز هذا الكتاب العظيم.

العوالم الخفية: بين تنوع الخلق ووحدة المصير

في الثقافة الغربية المعاصرة، يُحتفى بكثافة بفكرة الأكوان المتوازية، حيث تظهر فيها نُسَخ متطابقة تقريبًا من الأشخاص، وكأن كل قرار صغير يصنع "عالمًا موازيًا" بتفرعاته الجديدة. تنشغل أعمال الخيال العلمي، من السينما إلى الأدب، بهذا التصور المُكرّر: ذات المدن، نفس البشر، وجوه مألوفة، لكن باختلافات في مصير أو حدث.

لكنني أجد هذا التصور سطحيًا ومختزلًا لعظمة قدرة الله في الخلق والتنوع. إنني أؤمن أن العوالم الأخرى - إن كانت موجودة كما ألمح القرآن في إشاراته - مختلفة جذريًا عن عالمنا: في قوانينها، وأحيائها، وحتى أشكال الحياة العاقلة التي قد تكون ممتحنة بالوحي مثلنا، دون أن تشبهنا في الخِلقة أو الهيئة.

خلق متنوع بإرادة مطلقة

تُؤكد الآية الكريمة هذا المعنى بجلاء: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [النور: 45]. فإذا كان هذا التنوّع الهائل في كائنات عالمنا وحده، فكيف بغيره من العوالم؟ ألا يجوز أن تكون فيها مخلوقات تسير على أكثر من أربع قوائم، أو تطير بأجنحة طبيعية، أو تتنفس في الضوء، أو تتواصل بالموجات العقلية؟ يخلق الله ما يشاء.

الأكوان في منظور العلم الحديث

في كتابه "الحقيقة المخفية: الأكوان المتوازية والقوانين العميقة للكون"، يشير الفيزيائي بريان غرين إلى أن نظريات مثل "الكون المنتفخ" تقترح وجود أكوان أخرى، لكلٍ منها قوانينه الفيزيائية الخاصة، والتي قد تُنتج أشكالًا من الحياة والوعي لا يمكن تصورها في إطار قوانين كوننا المعروف: "قد تنشأ قوانين مختلفة لكل كون أو سماوات، مما قد يؤدي إلى ظهور أشكال مختلفة تمامًا من الحياة والواقع." (Greene, 2011, p.202)

أين هم الآن؟ وماذا حققوا؟ تُثار أسئلة خفية لا يمكن كبحها: كيف يعيش أولئك العُقلاء في الأكوان الأخرى؟ هل يشبهوننا في الإدراك، أم أن تفكيرهم من نسقٌ آخر؟ هل أوحى الله إليهم برسالات تناسب عالمهم، أم سلكت دعوات الحق لديهم طريقًا مختلفًا؟ هل طوّروا علومًا تفوقنا أم ما زالوا في بدايات وعيهم الكوني؟ هل أبادت الحروب حضاراتهم كما فعلنا نحن ببعضنا؟ وهل لا يزال بعضهم يسعى للنجاة، كما نسعى نحن؟

مرآة الأكوان: تجليات الخلق عبر جدران الوجود

تخيل أنك واقف في قاعة زجاجية هائلة، تمتد إلى ما لا نهاية. أمامك صفوف من الجدران الزجاجية الشفافة، وخلف كل منها أرض تشبه الأرض... ولكنها ليست الأرض. في واحدة، الأرض زرقاء والمحيطات خضراء. في أخرى، تطير المخلوقات بجناحين طبيعيين. هذه الصورة المجازية تفتح نافذة على مفهوم الأكوان المتعددة، لا باعتبارها نسخًا مكررة من عالمنا كما يتخيلها كثيرون، بل باعتبارها عوالم فريدة في جوهرها، محكومة بقوانين مختلفة، ويسكنها خلق مختلفون.

القرآن ورؤية التنوع الكوني

يشير القرآن الكريم في مواضع متعددة إلى سبع سماوات وسبع أراضٍ، مما أوحى لكثير من المفسرين والمفكرين المعاصرين بوجود عوالم متمايزة. إن إشارة القرآن إلى سبع سماوات وسبع أراضين توحي بوجود عوالم أخرى غير عالمنا، قد تكون مأهولة بمخلوقات عاقلة تختلف في طبيعتها وتركيبها عنا، وتتنزل عليها الرسالات السماوية كما تتنزل علينا.

اللقاء الأخير... حين تجتمع الأكوان

يا له من موقف عظيم يعجز خيالنا عن استيعابه... الكل في موقف واحد : الأولون والآخرون، من عالمنا هذا ومن الأكوان الأخرى التي لا نعرف عنها إلا ما شاء الله لنا أن نعلم. عوالمٌ تفصلها مسافات لا تُقاس، وقوانين لا تُشبه قوانيننا، وتكوينات لا تخطر على قلب بشر—لكنها كلها، رغم اختلافها، تُجمع في موقف واحد عظيم. ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]

تخيل المشهد... أمام العرش، تتلاشى الفوارق الكونية، وتخرس القوانين التي حكمت كل كون، ويخضع الجميع لسنّة واحدة لا استثناء فيها: العدل الإلهي. تلتقي السماوات السبع ومن فيها، والأراضين السبع ومن عليها، ويظهر جليًا أن كل ما ظنناه انفصالًا كان في الحقيقة سيرًا نحو لحظة جامعة واحدة. العبودية الخالصة لله تصبح الرابط الوحيد، والحقيقة الكبرى التي تسقط أمامها كل أوهام التعدد والاختلاف والتميّز.

ومع كل هذا التنوع الهائل، ومع هذا الانفصال المكاني والفيزيائي، يبقى المصير واحدًا. فكل من في السماوات والأرض وما بينهن وما تحت الثرى، سيقفون ذات يوم في محكمة كونية واحدة. قد نختلف عنهم في الأجساد، أو في أنماط التفكير، أو في طرائق الحياة... لكننا جميعًا—نحن وهم—مطالبون بالإجابة على السؤال ذاته: هل استجبنا لرسالة ربنا؟ هل عبدناه حق عبادته؟ فمهما تفرقت مسارات الأكوان، وتعددت صور الخلق، فإن النهاية واحدة، والمآل واحد، والموقف واحد. ﴿إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد: 5]

صورة من مسلسل فرنج لتمثال الحرية

في عالمنا التمثال الأخضر والبرونزي في عالم موازي لنا تماما هذه الصورة ترمز إلى فكرة الأكوان المتوازية التي هي محور كبير في مسلسل Fringe. وهناك عالم موازٍ، يشبه عالمنا في كثير من الأشياء، ولكن تختلف فيه بعض التفاصيل الجوهرية: التكنولوجيا مختلفة: وجود سفن هوائية ضخمة ما زالت تستخدم، بعكس عالمنا حيث اختفت. مخلوقات متحضّرة في أكوان موازية : ترتدي ملابس أنيقة مزخرفة بتقنيات مضيئة، وسط مدينة متقدمة بمعمار بلوري ومركبات طافية وقطارات ضوئية. الحضارة متكاملة، والجو مشرق يوحي بالسلام والتطور الروحي والعلمي.

المبحث الثالث: بين العقل العربي والغربي: مقاربات مختلفة للوجود

عبر التاريخ الفكري والعلمي، ظلّ العقل العربي والإسلامي ينظر إلى الكون نظرة شمولية تمزج بين الظاهر والمآل، بين الظاهرة والقصد، بينما غادر العقل الغربي منطقيته ومنهجه التجريبي في مساره المعاصر نحو الرصد والتحليل والفلسفة والخيال دون اعتبار للمآلات أو الغايات.. تجلّى هذا الفرق الجوهري في التعامل مع فكرة الأكوان المتعددة—وهي إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في الفيزياء الحديثة. فقد تبناها عدد من المفكرين الغربيين، حتى من خارج دائرة التخصص الصارم، متجاوزين أحيانًا حدود المنهج التجريبي نحو استنتاجات فلسفية مفتوحة، تميل في كثير منها إلى تأكيد دور المصادفة لا التصميم، وتبرير وجود هذا الكون بمجرد الاحتمال الإحصائي.

حين يغيب السؤال الأهم

بينما ينطلق الفكر الإسلامي من مسلّمة أن كل شيء مخلوق لحكمة، وأن وراء كل نظام في الوجود قصدًا أعلى، فإن النموذج المهيمن في الفلسفة العلمية الغربية الحديثة يتحرج من طرح سؤال "لماذا؟"، ويركّز فقط على سؤال "كيف؟". لعل أحد أبرز الفروق الجوهرية بين المقاربتين العربية الإسلامية والغربية المعاصرة لقضية الأكوان المتعددة يتمثل في مسألة "الغائية". فالعقل العربي الإسلامي ينطلق من مسلّمة أن الكون - بكل تعقيداته وأبعاده وعوالمه - مُصمم بقصدية وحكمة، وله غاية نهائية. بينما يميل العقل الغربي العلماني المعاصر إلى التهرب من السؤال عن الغاية والمقصد، ويكتفي بالبحث في الآليات والقوانين.

في أحد المؤتمرات العلمية، طرح سؤالًا بسيطًا على أحد الفيزيائيين الغربيين البارزين: "ما الغاية من احتمال وجود أكوان متعددة؟" فأجاب دون تردد: "العلم لا يهتم بالغايات، فقط بالآليات." هذه الإجابة لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت مُعبّرة عن فجوة الرؤية بين المدرستين.

نماذج رمزية لرؤيتين مختلفتين

يشير مالك بن نبي في المقارنة بين قصة روبنسون كروزو (الشهيرة في أدب الأطفال الغربي) وقصة ابن طفيل الأندلسي (حي بن يقظان) التي تمثل العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل حتى الاهتداء لوجود الخالق. فقد أشار مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة" إلى أن رواية الروائي الإنجليزي "روبنسون كروزو" ( مسلسل كرتوني-فلونه ) تدور حول العوالم الحسية والمادية فقط ولا إشارة فيها لما وراء العالم المادي، وأن قصته انشغلت بمتطلبات الأكل والنوم والمواد المصنوعة، بينما انشغل حي بن يقظان في رواية ابن طفيل بالبحث عن حقيقة الوجود والتأمل حول الموت والحياة وصولاً إلى وجود الخالق (بن نبي، شروط النهضة 1986، ص.99 )

كذلك نجد أن العقلية الغربية في موضوع فكري علمي كالأكوان المتعددة تجنح لنفس المقاربة من تغليب فكرة التطابق في الأشخاص والأماكن والأكوان، والبعد عن الإشارة لأهم سؤال في الوجود: من أوجد هذه العوالم؟ هذا الفارق الرمزي يكشف العقل الذي يتجه إلى السماء، مقابل عقل مشدود إلى الأرض، منصرف إلى المادة دون ما وراءها.

نحو إعادة التوازن

العقل الغربي، برغم قوته التحليلية وقدرته على التجريد الرياضي، يعاني من فجوة روحية وفلسفية، يظهر أثرها عند التعامل مع قضايا تتجاوز الفيزياء المحضة—كأصل الحياة، والوعي، وسؤال المصير. في المقابل، العقل الإسلامي يمتلك القدرة على إدماج الغيب في بنية التفكير، لا باعتباره فرارًا من التفسير، بل استحضارًا للمعنى، وتذكيرًا بأن العلم لا يكتمل ما لم يُفضِ إلى معرفة الذات، وربّ الذات.

تبدو مقاربة الأكوان المتعددة اختبارًا رمزيًا عميقًا للفكر الإنساني: هل نُفسّر كل شيء بـ"الاحتمال"، أم نرى في التعدد نظامًا محكمًا له غاية؟ هل نحن أبناء صدفة كونية، أم مخلوقات وُجدت عن علم وقدر؟ لقد وضعنا الخالق بين يدي آياته في الأنفس والآفاق، وترك لنا حريّة البحث، لكنه طلب منا أن ننظر بعينين: عين تُدقق في "كيف"، وأخرى تتأمل في "لماذا". فلا يكفي أن نفسّر الظواهر، بل يجب أن نهتدي بالمعاني.

المبحث الرابع: مقارنة بين المنظور القرآني والنظريات العلمية

حين يلتقي الوحي بالعلم

في زمنٍ يشهد تسارعًا مذهلًا في اكتشافات الفيزياء الكونية، وانفتاحًا على تصورات مذهلة كالأكوان المتعددة، والأبعاد الخفية، وتاريخ الكون من لحظة انفجاره الأول، يصبح من المشروع أن نتساءل: هل كان الخطاب القرآني مجرد خطاب ديني تعبدي؟ أم أنه حمل بين كلماته إشارات علمية دقيقة لا يمكن أن تكون وليدة ثقافة بشرية في القرن السابع الميلادي؟

لقد اعتاد الإنسان أن يفصل بين النص الديني والمكتشفات العلمية، واعتبر الأول مجالًا للعقيدة، والثاني حقلًا للتجربة والملاحظة. لكن مع تراكم المعطيات العلمية الحديثة، بات من اللافت أن القرآن الكريم قد أشار إلى كثير من المفاهيم الكونية الكبرى قبل أن تكتشفها أدوات العلم الحديث بقرون طويلة. إنه ليس ادعاءً ولا تأويلًا متعسفًا، بل هو دعوة للتأمل الجاد في حجم التوافق المذهل بين ما نزل من الوحي، وبين ما صعد إليه العقل. هذا المبحث يحاول أن يستعرض – بهدوء وإنصاف – بعضًا من تلك التقاطعات بين المنظور القرآني للكون والنظريات العلمية الحديثة، لا على سبيل التطابق القسري، بل كمدخل لفهم أعمق: أن الوحي لا يصادر العلم، بل يستبقه بإشارات تضيء طريقه.

القرآن والعلم: إشارات تسبق الاكتشاف

ومن المثير للاهتمام أن القرآن الكريم تحدث عن "سبع" سماوات تحديداً، وهو رقم يتوافق بشكل مذهل مع بعض النماذج النظرية الحديثة في فيزياء الأوتار. و أشار الباحثون في مجلة Physical Review D إلى أن السيناريوهات المحتملة للأكوان المنبثقة من نظرية التضخم الكوني (Cosmic Inflation) تشير إلى وجود سبعة أنماط رئيسية للأكوان المتوازية، تختلف في خصائصها الأساسية وثوابتها الفيزيائية. (Johnson & Martinez, 2023)

هذه التوافقات، وإن كانت لا تزال في إطار النظريات التي تحتاج إلى مزيد من التحقق التجريبي، تثير التساؤل: كيف عرف القرآن الكريم هذا العدد المحدد من السماوات قبل 1400 عام، عندما لم تكن البشرية تملك أدنى فكرة عن تركيب الكون أو قوانينه؟

لقد أشار القرآن الكريم إلى العديد من الحقائق الكونية التي أكدها العلم الحديث فيما بعد، ومن أبرزها:

كثيراً ما تساءلت في جلساتي العلمية مع زملائي المهتمين: ما الذي يمنع العلم الحديث من الاعتراف بسبق القرآن الكريم في الإشارة إلى هذه المفاهيم الكونية المتقدمة؟ أليست الحقيقة العلمية واحدة بغض النظر عن مصدرها؟ وهل التحيز المعرفي هو ما يمنع بعض العلماء من رؤية هذا التوافق المذهل بين القرآن والعلم؟

المبحث الخامس: من الانفجار العظيم إلى الأكوان المتعددة

رحلة العلم نحو أعماق الغيب

المحور الأول: الانفجار العظيم – النشأة والبرهان

تمكن العلماء في العصر الحديث من كشف كثير من القوانين الفيزيائية التي تحكم سلوك مادة الكون، مما أتاح لهم العودة بالنماذج الكونية إلى اللحظات الأولى من نشأة الكون، لتظهر أمامهم صورة مذهلة عن كيفية بدء الخلق.

1. النشأة الرياضية لنظرية الانفجار العظيم: في عام 1922م، أعاد الفلكي والرياضي الروسي ألكسندر فريدمان (Alexander Friedmann) حل معادلات النسبية العامة التي وضعها ألبرت أينشتاين عام 1916م، وتوصل إلى أن الكون في حالة توسع دائم، وهو ما خالف الاعتقاد السائد آنذاك بأن الكون ساكن. (Friedmann, 1922) ثم جاء الفلكي الأمريكي إدوين هابل (Edwin Hubble) في عام 1929م، ليقدم أول دليل رصدي على هذا التوسع، من خلال ملاحظته لظاهرة الانزياح الأحمر في طيف المجرات، والتي تعني أن المجرات البعيدة تنحسر عنّا بسرعة أكبر من القريبة. وهذا ما عُرف لاحقًا بـ قانون هابل (Hubble's Law). وقد اعتُبر هذا الاكتشاف حجر الأساس لنظرية الانفجار العظيم. (Hubble, 1929)

2. البيضة الكونية: في عام 1931م، طرح العالم البلجيكي والقس جورج لومتر (Georges Lemaître) فكرة أن الكون نشأ عن انفجار كتلة أولية شديدة الكثافة تُسمى "البيضة الكونية" (Cosmic Egg)، وتطورت لاحقًا إلى ما نعرفه اليوم باسم Big Bang. (Lemaître, 1931) وفي عام 1965م، قدم الفيزيائيان أرنو بنزياس وروبرت ويلسون (Penzias & Wilson) الدليل التجريبي الأقوى على صحة هذه النظرية، عندما اكتشفا الإشعاع الخلفي الكوني الميكروي (CMB)، وهو إشعاع متبقٍ من لحظة الانفجار العظيم، ومنذ ذلك الحين أصبح من المرتكزات الكبرى في علم الكونيات. وقد نال الباحثان جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978م لهذا الإنجاز. (Penzias & Wilson, 1965)

ويعلّق الدكتور نضال قسوم على هذا المشهد الكوني في كتابه "الكون والقرآن" بقوله: "تتفق نظرية الانفجار العظيم مع الإشارة القرآنية إلى الفتق والرتق في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30]، حيث تشير الآية إلى أن السماوات والأرض كانتا متّحدتين، ثم فُصلتا بفعل إرادة الله". (قسوم، 2010، ص.142)

المحور الثاني: نظرية الكون المنتفخ – الجسر إلى الأكوان الأخرى

مع تطور النماذج الكونية، بدأت تظهر ثغرات في نموذج الانفجار العظيم، منها ما عُرف بـ مشكلة الأفق (Horizon Problem)، والتي تتعلق بعدم كفاية المسافة التي قطعها الضوء منذ الانفجار لشرح درجة التجانس الحراري في الكون.

1. ظهور نموذج التضخم الكوني: في عام 1979م، قدّم الفيزيائي الأمريكي آلان غوث (Alan Guth) من معهد MIT نموذجًا يُعرف بـ نظرية الكون المنتفخ (Inflationary Universe)، يقترح فيه أن الكون خضع لمرحلة تمدد هائل وفائق السرعة في جزء صغير جدًا من الثانية بعد الانفجار العظيم. وملخص نظرية الكون المنتفخ هو أنه في خلال اللحظات الأولى من الانفجار العظيم، ونتيجة لحدوث ظاهرة فيزيائية غريبة يطلق عليها اسم التأثير النفقي (tunnel effect)، بدأ الكون بالتمدد بمعدلات أكبر بكثير من المعدلات التي نصت عليها نظرية الانفجار العظيم. ولقد أظهرت النتائج أن الكون قد ازداد حجمه خلال أجزاء لا تذكر من الثانية (between 10^-33 and 10^-32 seconds) بمقدار يساوي الرقم 10 مرفوع للأس 50، وقد أدى هذا التضخم أو الانتفاخ المذهل إلى ظهور كون يخلو من التناقضات التي ظهرت في النموذج التقليدي للانفجار العظيم والمتعلقة بمشاكل الأفق والتجانس والتناظر والقطب الأحادي الابتدائي (Guth, 1997).

لم يقتصر دور نظرية الكون المنتفخ على حل التناقضات الموجودة في نظرية الانفجار العظيم، بل جاءت بنتائج مدهشة تدعم الصورة التي رسمها القرآن الكريم عن هندسة الكون.

3. الفقاعات الكونية وتعدد الأكوان: واحدة من أغرب نتائج هذه النظرية هي أن التضخم أدى إلى نشوء مناطق مادية منعزلة، كل منها محاطة بحواجز طاقية شديدة، وكأنها فقاعات مستقلة، تمثل كل واحدة منها كونًا منفصلًا بقوانينه وظروفه. (Linde, 1986) وقد ورد في مجلة العلوم الأمريكية عام 1991 نصًّا: "نظرية جديدة في علم الكون تقترح أن الكون المشاهد مكنون داخل منطقة أكبر بكثير من الفضاء، نشأت عن توسّع استثنائي خلال لحظة ما بعد الانفجار العظيم مباشرة." (Guth & Steinhardt, 1991)

المحور الثالث: إشارات قرآنية وتأملات معرفية

لقد كان للقرآن الكريم إشارات لافتة حول تعدد السماوات والأراضين، منها قوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: 12] و ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] ويرى بعض الباحثين أن هذه الآيات تفتح الباب لفهم تعددية العوالم، ولو من منظور مختلف عن الطرح العلمي.

ويعلّق الدكتور منصور أبو شريعة العبادي في هذا السياق: "لقد تمكنت نظرية الكون المنتفخ من حل مشكلة الجسيمات الثقيلة، ومنها الأقطاب المغناطيسية الأحادية، عبر تفسير تجمّعها في الحواجز الفاصلة بين الأكوان الناتجة عن التضخم، مما يُفسر غيابها في كوننا المشاهد". (أبو شريعة، 2018، ص.15)

رغم أن نظرية الأكوان المتعددة ما زالت ضمن النطاق النظري ولم تخضع بعد لاختبارات حاسمة، إلا أن التقاءها في بعض النتائج مع الإشارات القرآنية القديمة، يمنحها بعدًا وجوديًا وفلسفيًا يستحق التأمل. إن تلاقي العلم الحديث مع خطاب الوحي، لا يعني التطابق المطلق، لكنه يُنبّه إلى أن الوحي لم يكن غافلًا عن بنية الكون العميقة، بل قدّمها بإشارات بليغة تخاطب العقل، وتوقظ الوجدان، وتفتح أمام الباحثين آفاقًا جديدة لفهم الوجود.

نظرية الإنفجار العظيم

هذه الصور توضح مختلف جوانب نظرية الانفجار العظيم، بما في ذلك توسع الكون، والإشعاع الكوني الخلفي، والتصورات الفنية للحظات الأولى من نشأة الكون. يقول الدكتور نضال قسوم في كتابه "الكون والقرآن": "تتفق نظرية الانفجار العظيم مع الإشارة القرآنية إلى الفتق والرتق في قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾، حيث تشير الآية إلى أن السماوات والأرض كانتا ملتصقتين أو متحدتين (رتقاً)، ثم تم فصلهما (ففتقناهما)" (قسوم، 2010، ص.142)

المبحث السادس: تطورات نظرية الأكوان المتعددة

شهدت العقود الأخيرة تطورًا ملحوظًا في النظريات الكونية التي تسعى إلى تفسير تعدد الأكوان، وخاصة في تقاطعات فيزياء الكم، وفيزياء الجسيمات، ونماذج الكون المنتفخ. ولقد انبرى عدد لا بأس به من علماء الفيزياء، وخاصة علماء فيزياء الجسيمات الأولية والفيزياء الفلكية، لدراسة ظاهرة الأكوان المتعددة التي أوحت بها حلول المعادلات الرياضية للكون المنتفخ.

فيزياء الكم وبوادر التعدد الكوني

في إطار فيزياء الكم (Quantum Physics)، والتي تُعنى بدراسة الجسيمات في أدق مستوياتها، لاحظ العلماء أن هذه الجسيمات لا تتصرف بطريقة حتمية، بل تتخذ حالات مختلفة بشكل عشوائي، تماشيًا مع مبدأ عدم اليقين (Uncertainty Principle). وقد أدى ذلك إلى استنتاج أن تحول الفراغ الزائف (False Vacuum) – وهي الحالة التي كانت عليها مادة الكون قبل التمدد – يمكن أن يؤدي إلى نشوء أكوان متعددة، يحوي كل منها أنواعًا مختلفة من الجسيمات والقوانين الفيزيائية. (Susskind, 2005)

كذلك، وجد الباحثون أن ظهور كونٍ مثل كوننا يتطلب ضبطًا دقيقًا لعشرين ثابتًا كونيًا على الأقل (Fine Tuning)، مما يعزز فرضية أن هناك أكوانًا أخرى ظهرت أثناء فترة التضخم الكوني، تتميز كل منها بمجموعة مختلفة من الثوابت الفيزيائية. (Rees, 2000)

تسعة نماذج للأكوان – تصنيف برين غرين

من أبرز الإسهامات في توضيح هذه الفرضيات ما قدمه الفيزيائي الأمريكي برين غرين (Brian Greene) في كتابه "الحقيقة المخفية: الأكوان المتوازية والقوانين العميقة للكون"، حيث صنّف تسعة أنواع رئيسية للأكوان المتعددة، بحسب الخلفية النظرية التي نشأت عنها: (Greene, 2011)

رأي العلماء حول حدود الأكوان

من أبرز المفاجآت في هذا المجال ما كشفت عنه الأبحاث الأخيرة للعالم الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking)، في آخر ورقة علمية له نُشرت بعد وفاته عام 2018م بالتعاون مع العالم توماس هرتوغ. ففي هذه الدراسة، يشير الباحثان إلى أن الأكوان المتعددة ليست لانهائية كما كان يُعتقد، بل يمكن حصرها في عدد محدود من الأكوان المحتملة. وقد جاء في ملخص المقالة: "إن تخميننا يعزز الحدس بأن الأكوان الهولوغرافية توحي بتخفيض معتبر للأكوان المتعددة إلى مجموعة محدودة جدًا من الأكوان المحتملة". (Hawking & Hertog, 2018)

كما أكد هوكينغ في مقابلة مع واشنطن بوست قوله: "نحن لا ننزل إلى مستوى كون واحد فريد، لكن اكتشافاتنا تشير إلى خفض معتبر في عدد الأكوان إلى مدى ضيق من الأكوان المحتملة". (Achenbach, 2018)

ويعلق الدكتور منصور أبو شريعة العبادي على هذه النتائج بقوله: "إذا ما استمر العلماء في أبحاثهم بهذه الجدية، فمن غير المستبعد أن يتمكنوا من تحديد عدد هذه الأكوان وأبعادها وهندستها، ولا شك أن هذه النتائج ستتقاطع في النهاية مع ما أوحى الله به في القرآن الكريم حول السماوات السبع". (أبو شريعة, 2018, ص.17)

إن تطور النظريات العلمية حول الأكوان المتعددة لا يمثل مجرد توسع في المعرفة الكونية، بل يضع الإنسان أمام أفق وجودي عميق: هل نحن فعلاً في كون وحيد؟ أم أننا جزء من منظومة كونية أوسع، تتعدد فيها العوالم والقوانين والنهايات؟ ومع أن العلم لم يُثبت بعد هذه الفرضيات، فإن اتساع الفهم البشري وانكشاف أبعاد جديدة للخلق يعيدنا دائمًا إلى لحظة التساؤل القرآني الأولى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ...﴾ [الطلاق: 12]

المبحث السابع: النقد العلمي لنظرية الأكوان المتعددة

رغم جاذبية نظرية الأكوان المتعددة، إلا أنها تواجه انتقادات علمية جوهرية من بعض الفيزيائيين والفلاسفة:

أولاً: إشكالية عدم القابلية للاختبار
يرى الفيزيائي الأمريكي بول ستاينهارت أن "المشكلة الأساسية مع نظرية الأكوان المتعددة هي أنها غير قابلة للاختبار تجريبياً، فهي تفترض وجود أكوان لا يمكننا مبدئياً التواصل معها أو رصدها، وهذا يخرجها من إطار العلم التجريبي إلى إطار الميتافيزيقا" (Steinhardt, 2014).

ثانياً: مشكلة شفرة أوكام
وفقاً للنقد الذي قدمته البروفيسور سابين هوسنفيلدر، عالمة الفيزياء النظرية الألمانية، فإن نظرية الأكوان المتعددة تتعارض مع مبدأ شفرة أوكام للأسباب التالية:

ثالثاً: الاعتبارات الفلسفية
يشير الفيلسوف جون إيرل إلى أن "نظرية الأكوان المتعددة قد تكون محاولة للهروب من الأسئلة الفلسفية العميقة حول أصل الكون وسبب وجوده بالشكل الذي هو عليه (Earle, 2020).

هذه الانتقادات لا تقلل من أهمية نظرية الأكوان المتعددة كإطار تفسيري محتمل، لكنها تذكرنا بأن العلم في هذا المجال لا يزال في بداياته، وأن الربط بين هذه النظريات والإشارات القرآنية يحتاج إلى حذر منهجي وتواضع معرفي.

المبحث الثامن: العوالم المتوازية في تفسير ابن عباس وتوافقها مع نظريات العلم الحديث

مقدمة: ابن عباس بين النبوغ التأويلي ودهشة الاكتشاف العلمي

هل كان عبد الله بن عباس – حَبر الأمة، وترجمان القرآن – سابقًا لعصره؟ تُعد رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن الأراضين السبع وما فيها من الكائنات المشابهة لكائنات أرضنا من الروايات التي تثير الدهشة بمدى تقاربها مع ما توصل إليه العلم الحديث من نظريات حول الأكوان المتعددة، وخاصة نظرية الأوتار الفائقة والعوالم المتوازية. فهل اختزن فهمًا في نص قرآني تزداد إشراقته كلما أضاءت أدوات العلم الحديث مناطق جديدة في الخلق؟ أسئلة تتزاحم حين نقرأ أثره في تفسير قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]

فقد روى البيهقي في "الأسماء والصفات" أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سبع أرضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى." [البيهقي، *الأسماء والصفات*، ص. 453] هذه الرواية، التي تتسم بجرأة المعنى وتفرد التصور، لم تحظَ باهتمام وافٍ في الفكر الإسلامي التقليدي، إلا أن موجة الاهتمام بـ"العوالم المتوازية" في الفيزياء النظرية الحديثة، أعادت تسليط الضوء عليها من زوايا غير مألوفة.

أولًا: توثيق الرواية وآراء العلماء فيها

صحة السند وتباين الموقف من المتن: الرواية عن ابن عباس صحيحة الإسناد كما أقر بذلك الإمام البيهقي، إذ قال: "إسناده صحيح، لكنه شاذ بمرة، لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا." [البيهقي، -الأسماء والصفات]. كما نقل ابن كثير هذا الأثر وأشار إلى غرابته، وعلّق قائلًا إنه ربما أخذه ابن عباس من الإسرائيليات: "إن صح عنه، فهو محمول على ما أخذه من الإسرائيليات." [ابن كثير، "تفسير القرآن العظيم" 4/386؛ "البداية والنهاية" 1/22]

موقف عبد الحي اللكنوي المدافع: أما الإمام عبد الحي اللكنوي، فقد تصدى للدفاع عن الرواية في رسالتين مهمتين: "دفع الوسواس في أثر ابن عباس" و"زجر الناس في أثر ابن عباس"، حيث رأى أن ظاهر الرواية يجب قبوله ما دام سندها صحيحًا، مستشهدًا بأن غياب إدراكنا لتلك الأراضين لا ينفي وجودها الواقعي، ولا يمنع أن يكون الله قد جعل في كل منها حياة واختبارًا مستقلًا.

ثانيًا: المفهوم القرآني للأراضين السبع

نص الآية الكريمة في سورة الطلاق يؤكد بلا لبس وجود "سبع أراضٍ": ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12]. وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن "الأراضين" سبع طبقات، بعضها فوق بعض، وبين كل أرض والتي تليها مسافة شاسعة. أما قول ابن عباس، فهو أجرأ التفاسير قاطبة، لأنه يُسند إلى هذه الأراضين وجودًا مستقلًا لحضارات وعوالم وكائنات، بل وأنبياء يشبهون أنبياء الأرض. وهنا يُطرح السؤال مجددًا: هل كان هذا الفهم تأويلًا شخصيًا أم وحيًا علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي دعا له بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل." [البخاري، رقم: 75]

ثالثًا: أوجه التوافق مع نظريات العلم الحديث

1. مع نظرية العوالم المتوازية (Parallel Universes): تفترض هذه النظرية وجود أكوان أخرى موازية لكوننا، تشبهه في بعض القوانين والظواهر، وتختلف عنه في أخرى. ومضمون رواية ابن عباس يتقاطع مباشرة مع هذا التصور، حين يذكر أن في كل أرض "آدم كآدم"، و"نوح كنوح"، في إشارة إلى تشابه لا تطابق. الفيزيائي الشهير براين غرين (Brian Greene)، أحد أبرز المدافعين عن فكرة الأكوان المتعددة، في كتابه "الحقيقة المخفية: الأكوان المتوازية والقوانين العميقة للكون" (The Hidden Reality, 2011): "الكون الذي نراه قد لا يكون الوحيد. هناك احتمالات قوية، ناتجة عن أفضل النظريات الفيزيائية لدينا، تشير إلى أن واقعنا ليس منفصلًا وفريدًا، بل هو واحد من عوالم كثيرة، مختلفة وربما لا نهائية." (Brian Greene, The Hidden Reality, 2011, p. 5)

2. مع نظرية الأوتار الفائقة (Superstring Theory): نظرية الأوتار تفترض وجود أبعاد خفية للزمكان تصل إلى 10 أو 11 بعدًا، وتشير إلى أن كل كون من الأكوان الناتجة قد يمتلك خصائصه الفيزيائية الفريدة. يقول برايان غرين في كتابه "الكون الأنيق": "تعدد الأبعاد في نظرية الأوتار يفتح الباب أمام وجود أكوان متعددة، قد تكون مأهولة بكائنات تشبه البشر." [غرين، 2003، ص.215]

3. التوافق مع مفهوم تنوع قوانين الفيزياء بين الأكوان: وفقاً للنظريات العلمية الحديثة، قد تختلف القوانين الفيزيائية من كون لآخر. ويشير البروفيسور بريان غرين إلى أنه "حسب نظرية الكون المنتفخ التي عدلت كثيراً من المعادلات الفيزيائية في الكون، قد تنشأ قوانين مختلفة لكل كون أو سماوات. وهذا يعني أن الأكوان الأخرى قد تكون محكومة بقوانين فيزيائية تختلف تماماً عن قوانيننا، مما قد يؤدي إلى ظهور أشكال مختلفة تماماً من الحياة والواقع" (غرين، الحقيقة المخفية، 2011، ص.202). وهذا يتوافق مع إشارة ابن عباس إلى التشابه وليس التطابق بين الأنبياء والرسل في الأراضين المختلفة، مما يوحي بوجود اختلافات بينهم تعكس اختلاف طبيعة وخصائص تلك العوالم.

رابعًا: قراءة نقدية للتوافق بين الأثر والنظرية

رغم الدهشة الإيجابية من هذا التلاقي بين التفسير والرؤية الكونية الحديثة، ينبغي النظر للأمر بحذر منهجي:

خامسًا: هل سبق ابن عباس عصره؟

من الملفت للنظر أن تصدر هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أكثر من 1400 عام، في زمن لم تكن البشرية فيه تمتلك حتى التلسكوبات البسيطة لرصد الكواكب القريبة، فضلاً عن التفكير في عوالم متوازية وأكوان متعددة. فهل كان ابن عباس سابقاً لعصره؟ أم أن المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات يتجاوز الإدراك البشري المحدود؟ لكن هناك احتمال آخر، وهو أن تكون هذه الرواية من قبيل ما سمعه من رسول الله وما تعلمه ابن عباس من فهم لمعاني القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه. فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". يقول الدكتور منصور أبو شريعة: "التوافق بين ما كشفه العلم وما نطق به القرآن ليس صدفة، بل دليل على أن هذا الكتاب من عند من أحاط بكل شيء علمًا." [أبو شريعة، 2018، ص.22]

نحو فهم تكاملي: بين الوحي والعلم

إن الرؤية الإسلامية للكون تقدم لنا نموذجاً تكاملياً يجمع بين معطيات الوحي ومكتشفات العلم وتأملات الفلسفة. وفي هذا السياق، يمكننا فهم رواية ابن عباس عن الأراضين السبع ضمن هذه الرؤية التكاملية.

  1. البعد الإيماني: قدرة الله المطلقة: تؤكد رواية ابن عباس على قدرة الله المطلقة في الخلق وتنويعه. فالله تعالى قادر على خلق أكوان متعددة وعوالم متنوعة، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [العنكبوت: 19].
  2. البعد العلمي: توافق مع النظريات العلمية الحديثة: تتوافق رواية ابن عباس مع نظريات علمية حديثة مثل نظرية الأوتار الفائقة ونظرية الأكوان المتعددة، مما يفتح آفاقاً جديدة للبحث العلمي.
  3. البعد الفلسفي: معنى الوجود البشري: تدفعنا رواية ابن عباس إلى التأمل في معنى الوجود البشري ضمن هذا الكون الواسع، وفي الغاية من خلق أكوان متعددة، وفي العلاقة بين هذه الأكوان، وفي مصير الكائنات العاقلة في مختلف العوالم.

من العوالم المتوازية إلى يوم القيامة: تشير الرؤية الإسلامية إلى أن كل هذه العوالم والأكوان، مهما تعددت وتنوعت، سيجمعها الله سبحانه وتعالى في يوم واحد هو يوم القيامة. قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: 104]. فلك أن تتخيل هذا المشهد المهيب، حيث تجتمع كل العوالم والأكوان في مكان واحد، تنتظر الفصل من ربها. إنه حقاً موقف يعجز العقل عن استيعابه.

المبحث التاسع: يأجوج ومأجوج: برهان على وجود عالم موازٍ وبوابة كونية مُحكمة الإغلاق

حين تتقاطع النصوص مع الاستحالات الجغرافية

في طيات هذا الكون المترامي الأطراف تختبئُ أسرارٌ ما زال عقل الإنسان يحدِّقُ فيها بذهول، لكن الأسرار الأعظم تكمن في تلك العوالم التي لا يحجبها إلا غيابُ الإدراك عن أعيننا. فالكونُ في الرؤية القرآنية لا يقتصر على ما تراه المراصد أو تحصيهُ المعادلات؛ إنه سماواتٌ سبعٌ وأرَضون سبعٌ يتنزَّلُ بينها الأمرُ بأشكالٍ مختلفة ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [القرآن الكريم، سورة الطلاق، آية 12].

يقرِّر القرآن أنَّ كلَّ شيءٍ في هذه العوالم المتعددة يسبِّحُ بحمد الله: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [القرآن الكريم، سورة الإسراء، آية 44]. وحين ننتقل إلى قصة يأجوج ومأجوج، نجد أنفسنا أمام معادلة معقدة: نصوص محكمة تخبر عن أمم هائلة العدد محجوزة خلف سد منذ آلاف السنين، في عصر طوَّقت فيه الأقمار الصناعية كل شبر من الأرض ولم تترك مكانًا إلا ومسحته بدقة متناهية [ناسا، برنامج Landsat للمراقبة الأرضية].

هذا التناقض الظاهري بين النص الشرعي والواقع التقني المعاصر يستدعي إعادة نظر جذرية في فهم طبيعة هؤلاء الأقوام وموقعهم الكوني. إننا لا نشكك في صحة النصوص، بل نطرح فرضية تفسيرية محكمة: يأجوج ومأجوج أمم من عالم موازٍ يتصل بعالمنا عبر بوابة كونية أُغلقت بتقنية إلهية متقدمة على يد ذي القرنين.

لغز يتحدى الجغرافيا والمنطق

في زمن الأقمار الصناعية وتقنيات التصوير عالية الدقة، حيث لم تعد تخفى على البشرية بقعة واحدة من سطح الأرض، تطرح قصة يأجوج ومأجوج تحديًا منطقيًا عميقًا. كيف يمكن لمئات الملايين، بل المليارات من الكائنات أن تبقى محتجزة في مكان ما على كوكبنا دون أن تُرصد؟ وكيف يستطيع سدٌّ مبني من الحديد والنحاس أن يحبس هذا العدد الهائل لآلاف السنين؟ النصوص القرآنية والأحاديث النبوية تقدم معطيات واضحة تشير إلى أن يأجوج ومأجوج ليسوا مجرد قبائل بشرية عادية، بل كائنات من طبيعة مختلفة. لكني هنا أقدم افتراضا يمثل مخرجا للغز و فهما مبسطا للآيات والأحاديث الصحيحة حيث أفترض أن هذه المخلوقات تقطن عالمًا موازيًا يتصل بعالمنا عبر بوابة كونية أُغلقت بإحكام إلهي على يد ذي القرنين. هذه النظرية لا تتعارض مع النصوص الشرعية، بل تقدم تفسيرًا منطقيًا يحل الإشكالات المكانية والزمانية المطروحة.

الدليل الأول: الاستحالة المطلقة للإخفاء في عصر الرصد الشامل

التغطية الساتلية الشاملة للأرض: يشهد عالمنا اليوم تغطية ساتلية شاملة لا تترك متر مربع واحد من سطح الأرض دون رصد. شبكات الأقمار الصناعية مثل Google Earth وLandsat تلتقط صورًا دقيقة لكل منطقة على الكوكب بدقة تصل إلى أمتار قليلة [ناسا، برنامج Landsat للمراقبة الأرضية] حتى المناطق النائية في القطبين والصحاري والجبال الوعرة خضعت للمسح الشامل. تغطي كامل اليابسة بدقة 15-30 متر مع إعادة زيارة كل 16 يومًا [USGS Landsat-8]، بينما تصل دقة Sentinel-2 الأوروبي إلى 10 أمتار مع إعادة زيارة كل 5 أيام [ESA Sentinel-2]. أما الأقمار التجارية مثل Maxar فتصل دقتها إلى 30 سم، مما يمكن من تمييز الأفراد والمركبات [Maxar 30 cm].

العدد المذكور في النصوص يتجاوز حدود الإخفاء: الأحاديث النبوية تشير إلى أن عدد يأجوج ومأجوج يقاس بالمليارات. ففي الحديث الشريف: "يقول الله تعالى لآدم يوم القيامة: ابعث من ذريتك بعثًا إلى النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذٍ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الواحد؟ قال: أبشروا، فإن منكم واحدًا ومن يأجوج ومأجوج ألفًا" (صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: وترى الناس سكارى). هذا يعني أن نسبة يأجوج ومأجوج إلى بني آدم هي 999:1، وإذا كان عدد البشر اليوم حوالي 8 مليارات، فإن هذا يشير إلى وجود حوالي 8 تريليون من يأجوج ومأجوج. هذا العدد الفلكي يجعل إخفاءهم في أي مكان على سطح الأرض أمرًا مستحيلًا جغرافيًا ولوجستيًا. فحتى لو توزعوا على كامل مساحة اليابسة (149 مليون كم²)، لكانت الكثافة السكانية حوالي 53 ألف فرد لكل كيلومتر مربع، وهي كثافة تفوق أكثر المدن ازدحامًا في العالم بعشرات المرات.

استهلاك الموارد والأثر البيئي: الأحاديث تصف كيف أن يأجوج ومأجوج حين يخرجون "يشربون مياه الأرض" حتى "يمر بعضهم على بحيرة طبرية فيشربون ماءها، حتى إذا مر آخرهم قال: لقد كان بهذه ماء مرة" [صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة]. هذا الاستهلاك الهائل للمياه يتطلب نظامًا بيئيًا منفصلًا تمامًا عن نظامنا الأرضي. بحيرة طبرية تحتوي على حوالي 4.3 مليار متر مكعب من المياه. لو أن 8 تريليون كائن شربوا هذه الكمية، فإن نصيب كل فرد سيكون أقل من لتر واحد - وهذا يدل على أن استهلاكهم للمياه يتجاوز الحاجة البيولوجية العادية، مما يشير إلى طبيعة مختلفة أو آلية استهلاك غير مألوفة. وليسوا في مكان تحت الأرض أو في وادي يجمع كل هذه المليارات.

الدليل الثاني: طبيعة السد تشير إلى تقنية أبعاد متعددة

وصف القرآن لبناء السد يحمل دلالات فيزيائية عميقة: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [القرآن الكريم، سورة الكهف، آية 96] الجمع بين الحديد والنحاس المصهور يخلق سبيكة معدنية ذات خصائص كهرومغناطيسية فريدة. في الفيزياء الحديثة، نعلم أن المجالات الكهرومغناطيسية القوية يمكنها أن تؤثر على البعد الرابع والأبعاد الإضافية (Randall, Lisa. Warped Passages: Unraveling the Mysteries of the Universe's Hidden Dimensions. HarperCollins, 2005).

عجز يأجوج ومأجوج عن تجاوز السد: النص القرآني يصرح: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [القرآن الكريم، سورة الكهف، آية 97]. هذا العجز المطلق لا يمكن تفسيره بمجرد حاجز مادي عادي. لو كان السد مجرد جدار من المعدن، لاستطاعت مليارات الكائنات عبر آلاف السنين أن تجد طريقة لتجاوزه، خاصة مع التطور التقني الطبيعي. العجز المطلق يشير إلى أن السد يعمل على مستوى أعمق من المادة العادية - إنه يغلق نفقًا أو بوابة بين أبعاد مختلفة، مما يجعل العبور مستحيلًا حتى لو تم تدمير المادة الظاهرة للسد.

الدليل الثالث: طبيعة خروجهم تدل على انتقال بُعدي

التحليل اللغوي لآية الخروج: يصف القرآن خروجهم بدقة بالغة: ﴿حَتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [القرآن الكريم، سورة الأنبياء، آية 96]. "فُتِحَت": صيغة المبني للمجهول تدل على فتح خارجي، وليس خروجًا بقوتهم الذاتية. "من كل حدب": من كل مرتفع ومكان عالٍ، وليس من مكان واحد محدد. "ينسلون": يتدفقون بسرعة فائقة، مما يدل على اندفاع مفاجئ وليس خروجًا تدريجيًا. هذا الوصف يتطابق تمامًا مع فتح بوابة في نقاط مرتفعة ، حيث يكون "الغشاء" بين البُعدين أرق، وليس مع خروج من موقع جغرافي واحد.

الظهور المفاجئ من كل مكان: لو كانوا محبوسين خلف سد في مكان معين على الأرض، لخرجوا من ذلك المكان تحديدًا. لكن الوصف القرآني يشير إلى ظهورهم في كل مكان مرتفع، مما يدل على أنهم ينتقلون من بُعد مختلف إلى بُعدنا عبر نقاط متعددة.

السلوك الغريب بعد الخروج: الأحاديث تصف سلوكًا غير اعتيادي ليأجوج ومأجوج: "فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع وعليها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا من في الأرض، وعلونا من في السماء" [صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة] هذا السلوك يشبه سلوك كائنات تواجه بيئة فيزيائية غريبة عليها. محاولة "قهر من في السماء" تشير إلى عدم فهمهم لطبيعة بُعدنا الفيزيائي، وكأنهم يطبقون قوانين عالمهم على عالمنا.

الدليل الرابع: الفناء السريع يدل على عدم التأقلم البيئي

صدمة العبور البيولوجية: يصف الحديث الشريف موتهم المفاجئ: "فيرسل الله عليهم نغفًا في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة" [صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة]. هذا الموت الجماعي السريع لتريليونات الكائنات يشير إلى صدمة بيولوجية قاتلة ناتجة عن التعرض لبيئة فيزيائية مختلفة جذريًا . و أيضا الى ضعف شديد في مناعتهم لعدم وجود مناعة مكتسبة من البيئة الأرضية فيسهل على الفيروسات والجراثيم مهاجمتهم. في علم الأحياء الفلكي، نعلم أن الكائنات من بيئات مختلفة قد تواجه صدمة بيولوجية قاتلة عند التعرض لبيئة جديدة، حتى لو كانت البيئة مشابهة ظاهريًا [NASA Astrobiology Institute, "Environmental Adaptation in Extreme Conditions"]

تحلل الأجساد والرائحة الكريهة: الأحاديث تصف كيف أن أجسادهم تملأ الأرض برائحة كريهة، حتى أن المؤمنين يدعون الله أن يريحهم منها، فترسل طيور تحمل الجثث [صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة]. هذا التحلل السريع والرائحة المختلفة تشير إلى تركيب بيولوجي مغاير لتركيب الكائنات الأرضية العادية. الأحاديث تصف كيف أن أجسادهم تملأ الأرض برائحة كريهة ، حتى أن المؤمنين يدعون الله أن يريحهم منها.

الدليل الخامس: الدعم من نظريات الفيزياء المعاصرة

نظرية الأوتار والأبعاد المتعددة: تقترح نظرية الأوتار الفائقة وجود 11 بُعدًا، منها أربعة فقط ندركها (الطول والعرض والارتفاع والزمن)، بينما الأبعاد الأخرى "ملتفة" بطريقة لا ندركها [Greene, Brian. The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory. W. W. Norton & Company, 2003] هذا يعني أن كائنات يمكن أن تكون قريبة جدًا منا مكانيًا، لكن منفصلة عنا بُعديًا. البوابات بين هذه الأغشية نظريًا ممكنة، وإغلاقها بتقنية متقدمة أمر قابل للتصور علميًا.

نظرية الأكوان المتوازية: يقترح علماء مثل هيو إيفريت وماكس تيجمارك وجود أكوان متوازية لا نهائية، كل منها يحتوي على نسخ مختلفة من الواقع [Tegmark, Max. "The Mathematical Universe." Foundations of Physics 38, no. 2 (2008): 101-150] بعض هذه الأكوان قد يكون قريبًا جدًا من كوننا، مع اختلافات طفيفة في القوانين الفيزيائية.

البوابات الكونية (Wormholes): نظريات أينشتاين حول النسبية العامة تسمح بوجود "ثقوب دودية" أو بوابات كونية تربط بين مناطق مختلفة من الزمكان [Thorne, Kip. Black Holes and Time Warps: Einstein's Outrageous Legacy. W. W. Norton & Company, 1994]. هذه البوابات يمكن نظريًا أن تربط بين عوالم مختلفة.

الدليل السادس: التفسير المنطقي لخصائص السد

لماذا الحديد والنحاس تحديدًا؟ اختيار ذي القرنين للحديد والنحاس ليس عشوائيًا. هذان المعدنان يشكلان، عند المزج والصهر، سبيكة ذات خصائص مغناطيسية وكهربائية فريدة. في الفيزياء النظرية، المجالات الكهرومغناطيسية القوية يمكنها أن تؤثر على انحناء الزمكان [Wheeler, John Archibald. Geometrodynamics. Academic Press, 1962].

التصميم الهندسي للسد: وصف "ساوى بين الصدفين" يشير إلى تصميم هندسي دقيق يهدف إلى إنشاء مجال موحد. هذا التصميم يشبه ما نعرفه في الفيزياء الحديثة عن "أقفاص فاراداي" التي تحجب المجالات الكهرومغناطيسية، لكن على مستوى أعمق يؤثر على البعد الرابع نفسه.

فشل المواضع التاريخية المقترحة: طُرحت ثلاثة مواضع رئيسية لسد ذي القرنين: سور دربند (أذربيجان): طوله 40 كم، لكنه مبني من الحجر وليس الحديد والنحاس [UNESCO Derbent]، جدار جرجان (إيران): طوله 195 كم، لكن تاريخه الساساني معروف [World Archaeology - Gorgan Wall]، ممر داريال (جورجيا-روسيا): مجرد ممر طبيعي بدون سد حقيقي [Wikipedia - Darial Gorge]. لا يوجد أي من هذه المواقع يطابق الوصف القرآني: لا تحتوي على التركيب المعدني المذكور (حديد + نحاس مذاب)، تاريخها وبناؤها معروف ومُوثَّق أثريًا، لم تثبت فعاليتها المطلقة في منع العبور عبر التاريخ، مكشوفة بالكامل للأقمار الصناعية ولا تُخفي أي تجمعات سكانية.

الدليل السابع: الحكمة الإلهية في التوقيت

لماذا الآن وليس قبل آلاف السنين؟ خروج يأجوج ومأجوج مرتبط بعلامات الساعة الكبرى، وهذا التوقيت له حكمة عميقة. لو كانوا مجرد قبائل بشرية عادية، لكان بإمكانهم الخروج في أي وقت عبر التاريخ. لكن ربط خروجهم بنهاية الزمان يشير إلى أن خروجهم يتطلب شروطًا كونية خاصة قد تكون مرتبطة بتغيرات في بنية الزمكان نفسه.

العلاقة بين الفتن الكبرى: خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج كلها أحداث مترابطة. هذا الترابط يشير إلى أن نهاية الزمان تتضمن انفتاحًا للحجب بين العوالم المختلفة - عالم الجن (الدجال)، العالم السماوي (نزول عيسى)، والعالم الموازي (يأجوج ومأجوج).

الدليل الثامن: شهادة النصوص على التنوع الكوني

إشارات القرآن إلى العوالم المتعددة: يقول تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [القرآن الكريم، سورة الطلاق، آية 12]. هذه الآية تشير صراحة إلى وجود سبع أراضين مثل السماوات السبع، وأن الأمر الإلهي يتنزل بينها جميعًا.

رواية ابن عباس الصحيحة: روى البيهقي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير "ومن الأرض مثلهن" قال: "سبع أراضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيساكم" [البيهقي، الأسماء والصفات، باب ما جاء في السماوات والأرض]. رغم أن بعض العلماء تحفظوا على هذه الرواية، إلا أن سندها صحيح، وهي تشير إلى وجود عوالم أخرى مأهولة بكائنات عاقلة لها أنبياء ورسالات.

الدليل التاسع: التنبؤات القابلة للاختبار

الشذوذات المغناطيسية المحتملة: إن كان سد ذي القرنين بالفعل جهازًا لإغلاق بوابة كونية، فمن المتوقع وجود شذوذات مغناطيسية وجاذبية في المناطق الجبلية النائية حيث تشير التقاليد إلى وجود "بوابات الإسكندر". هذه الشذوذات يمكن رصدها بالمسوحات الجيوفيزيائية الحديثة.

الإشارات الراديوية غير الطبيعية: عند اقتراب وقت "الدك" قد تسبقه إشارات راديوية غير طبيعية أو تغيرات في الخصائص الكهرومغناطيسية للغلاف الجوي في مناطق محددة، يمكن رصدها بشبكات الاستشعار العالمية.

الرد على الاعتراضات الأساسية

الاعتراض الشرعي: "هم من ذرية آدم"
الرد: نحن لا ننكر أصلهم البشري، لكننا نقترح أن موطنهم وآلية عبورهم مختلفة. النص سمى خروجهم "آية" مقترنة بـ"فتح" و"دك"، مما يوسع دائرة التصور دون نقض ظاهر الحدث. كما أن تطور البشر في بيئات مختلفة عبر آلاف السنين يمكن أن يؤدي إلى اختلافات جوهرية في الخصائص الفيزيولوجية.

الاعتراض العلمي: "الأكوان المتوازية غير مُثبتة"
الرد: نحن نستخدم الإطار النظري كنموذج مفهومي وليس كادعاء يقيني. الفيزياء النظرية لم تستبعد مبدئيًا وجود أبعاد إضافية أو عوالم موازية، بل تدرسها بجدية علمية [Hawking, Stephen & Hertog, Thomas. "A smooth exit from eternal inflation?" Journal of High Energy Physics 2018, no. 4 (2018): 147].

الاعتراض الجغرافي: "السد معروف تاريخيًا"
الرد: كما أثبتنا، لا يوجد موقع تاريخي يطابق الوصف القرآني. المواقع المقترحة تفتقر إلى الخصائص الأساسية: التركيب المعدني، الفعالية المطلقة، والقدرة على حجز تريليونات الكائنات.

التركيب المنطقي للنظرية

بناءً على الأدلة المطروحة، يمكن صياغة نظرية متماسكة حول يأجوج ومأجوج:

  1. أولاً: يأجوج ومأجوج كائنات من عالم موازٍ يقع في بُعد مختلف عن بُعدنا، لكنه قريب منا مكانيًا.
  2. ثانيًا: السد الذي بناه ذو القرنين ليس مجرد حاجز مادي، بل جهاز متقدم يغلق البوابة البُعدية بين العالمين باستخدام المجالات الكهرومغناطيسية.
  3. ثالثًا: عجزهم المطلق عن تجاوز السد لآلاف السنين يؤكد أن الحاجز يعمل على مستوى الأبعاد نفسها، وليس مجرد المادة.
  4. رابعًا: خروجهم المرتبط بنهاية الزمان يشير إلى أن انفتاح البوابة يتطلب شروطًا كونية خاصة لن تتحقق إلا قبل الساعة.
  5. خامسًا: سلوكهم الغريب وموتهم السريع بعد الخروج يدل على عدم تأقلمهم مع البيئة الفيزيائية لعالمنا.

هذه النظرية لا تتعارض مع النصوص الشرعية، بل تقدم تفسيرًا علميًا منطقيًا لها، وتحل الإشكالات الجغرافية والمنطقية المطروحة. كما أنها تتماشى مع أحدث النظريات في الفيزياء النظرية حول الأبعاد المتعددة والعوالم المتوازية.

الحقيقة تتجلى في تناغم النص والكون

لعل هذا البرهان يكشف عن حقيقة عميقة: أن النصوص الشرعية ليست مجرد أخبار تاريخية، بل مفاتيح لفهم بنية الكون نفسه. قصة يأجوج ومأجوج، بكل تفاصيلها المحيرة، تجد تفسيرًا منطقيًا ومتماسكًا في إطار العوالم المتوازية والأبعاد المتعددة. إن الله تعالى القائل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [القرآن الكريم، سورة فصلت، آية 53] يُرينا كيف أن تقدم العلم لا يُبعدنا عن النص، بل يُقربنا إلى فهم أعمق لحقائقه. وستبقى قصة يأجوج ومأجوج شاهدًا على أن الوجود أرحب مما ندرك، وأن الغيب أعمق من الشهادة، وأن عوالم الله لا تُحصر في إدراكنا المحدود. فالحمد لله رب العالمين - بصيغة الجمع التي تشمل عوالم لا نعلم عنها إلا ما علَّمنا الله في كتابه المبين. إن الله على كل شيء قدير، وخلقه أوسع مما نتصور، وعوالمه أكثر مما ندرك. وستبقى قصة يأجوج ومأجوج إحدى الآيات العظيمة التي تذكرنا بأن الغيب أعمق من الشهادة، وأن الوجود أرحب من إدراكنا المحدود.

المبحث العاشر: الوعي الكوني والكون المسبح في الأكوان المتعددة

منذ أن بدأ الإنسان يرفع بصره إلى السماء، لم يتوقف عن التساؤل: هل نحن وحدنا من يعقل ويشعر ويعبد؟ هل الأرض وحدها تسبح ، والمخلوقات التي نعرفها وحدها هي التي تسبِّح؟ ومع تطور المعرفة العلمية، ظهرت مفاهيم جديدة مثل الوعي الكوني والعوالم المتعددة، دفعت الفكر المعاصر إلى إعادة النظر في فهم "الوجود" و"الإدراك" و"العبادة".

وفي خضم هذا التحوّل، يبرز القرآن الكريم بنصوصه الكاشفة عن حقيقة مدهشة: كل شيء في السماوات والأرض – بل في الوجود كله – يسبّح لله، عن وعيٍ لا يدركه الإنسان، وإدراكٍ لا يُشبه إدراكه. إن محاولة الربط بين هذا التصور القرآني العميق، وبين اكتشافات الفيزياء الحديثة حول الوعي، والتشابك، والكمّ، والأكوان المتعددة، لا تمثل مجرد اجتهاد بياني، بل تُعبّر عن رغبة صادقة في الاقتراب من وحدة الحقيقة: حقيقة أن الكون ليس صامتًا... بل واعيًا، مسبّحًا، عابدًا، في كل أبعاده.

أولًا: التسبيح الكوني في القرآن الكريم – تسبيح واعٍ، لا صامت

جاءت عدة آيات في القرآن الكريم تؤكد بوضوح لا لبس فيه أن جميع المخلوقات – في السماء والأرض – تسبِّح بحمد خالقها، تسبيحًا حقيقيًا واعيًا، وإن خفي عن إدراكنا البشري.

الآية الأولى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (الإسراء: 44). هذه الآية تشمل كل ما في السماوات السبع، والأرض، و"من فيهن"، بل تضيف قيدًا شاملاً: "وإن من شيء إلا يسبّح بحمده"، أي لا يوجد شيء – مهما صغر أو عُدّ جمادًا إلا وهو في حال تسبيح دائم لله. لكن البشر لا "يفقهون" هذا التسبيح، لا لأن المخلوقات لا تسبّح، بل لأن وعينا البشري محدود في إدراك نمط تسبيحها.

الآية الثانية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (النور: 41). وهنا يُضاف بعدٌ أعمق: "كُلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه" فليس فقط أن المخلوقات تسبِّح، بل تعلم أنها تفعل ذلك، في دلالة صريحة على وجود "وعي ذاتي" لكل كائن – مهما كان – يجعله يعرف مهمته الوجودية. هذا الوعي الكوني، كما تصوّره القرآن، ليس وعياً "بيولوجيًا" بالضرورة، بل وعيٌ بالمعنى: إدراكٌ للغرض، واستحضارٌ للمآل، وخضوعٌ للرب، يتجلّى في صمت المجرات، وهسيس الشجر، وهدير البحر، وزقزقة الطير.

ثانيًا: من فيزياء الكم إلى وعي الكائنات – تطورات في فهم العقل الكوني

1. نظرية الوعي الكمي (Quantum Consciousness): قد تبدو الفيزياء الكمية – بما فيها من تعقيدات رياضية وجسيمات متناهية الصغر – بعيدة عن مفاهيم مثل "الإدراك" أو "النية"، لكن أحد أكثر الاتجاهات العلمية جرأة اليوم هو ما يُعرف بنظرية الوعي الكمي. وفق هذه النظرية، والتي أبرز روادها روجر بنروز (عالم الفيزياء الرياضية) وستيوارت هامروف (طبيب التخدير وعالم الأعصاب)، فإن الوعي البشري ليس مجرد ناتج تفاعلات كيميائية في الدماغ، بل يرتبط بمستويات كمومية دقيقة تحدث داخل الأنابيب الدقيقة (microtubules) داخل الخلايا العصبية. Hameroff & Penrose (2014) يقترحان أن هذه الأنابيب تشكّل ما يشبه "محور الوعي"، حيث تحدث فيها عمليات تشابك كمومي (quantum coherence) تُنتج التجربة الذاتية التي ندعوها "وعيًا".

4. دراسة داعمة من مجال التخدير العصبي (2021): في دراسة حديثة نُشرت بمجلة eNeuro (سبتمبر 2021)، أظهر الباحث أنيربان بانديو بادياي وزملاؤه أن الأدوية المؤثرة على الأنابيب الدقيقة تؤخر فقدان الوعي الناتج عن الغازات المخدرة، مما يشير إلى أن هذه الأنابيب قد تلعب دورًا مباشرًا في الحفاظ على حالة الوعي. Bandyopadhyay, A. et al., 2021, eNeuro Journal" وهذا الاكتشاف يعزز نموذج الوعي الكمي، ويوفر دعمًا تجريبيًا لفكرة أن العقل البشري يرتبط جوهريًا بالبنية الكمومية العميقة للكون.

ثالثًا: بين التسبيح القرآني والوعي الفيزيائي – تقاطعات لا تطابقات

بعد عرض هاتين النظريتين، تبرز أمامنا عدة تقاطعات ممكنة بين ما أخبر به القرآن عن تسبيح كل شيء، وبين ما تلمّح إليه الفيزياء الحديثة من احتمال وجود نوع من الإدراك الكامن في البنى الكونية الدقيقة.

النقطة الأولى: الوعي الذاتي للكائنات: الآية: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: 41] تُشير إلى وعي ذاتي داخلي، لا مجرد تفاعل غريزي. هذا يتقاطع مع الفرضية التي تقول إن الوعي ليس حكرًا على الدماغ البشري، بل قد يوجد بأشكال مختلفة في الكائنات الأخرى، أو حتى في الأنظمة غير الحية، كما تطرح بعض صيغ نظرية Panpsychism.

النقطة الثانية: التشابك الكمي والتواصل الكوني: تشير بعض التجارب الفيزيائية إلى ظاهرة "التشابك الكمي" (quantum entanglement)، حيث يبقى جسيمان مترابطين بشكل فوري مهما بعدت المسافات بينهما. Dean Radin (2006) في كتابه "الوعي والكون" (Conscious Universe) يعرض أدلة على أن هذا النوع من الترابط الكمومي قد يكون حاضرًا حتى في البنى العصبية للدماغ. ومن هنا، يمكن تأمّل التسبيح الكوني على أنه نمط من "الاتصال الغيبي" الشامل بين الكائنات وخالقها، اتصال لا تدركه الحواس، لكنه حقيقي – كما أخبر القرآن – ومستمر.

النقطة الثالثة: شمولية التسبيح، وشمولية الوعي: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44] هي واحدة من أكثر الآيات إطلاقًا وشمولًا في القرآن. وهي تتقاطع مع الرؤية العلمية المتنامية، وخاصة عند فلاسفة الوعي مثل فيليب جوف (Goff, 2019) الذين يتبنون "الوعي الكوني الشامل" (panpsychism)، أي أن كل شيء في الكون يمتلك درجة من الوعي تتناسب مع تكوينه. يقول جوف في كتابه "Galileo’s Error": "نحتاج أن نتجاوز الرؤية المادية الجامدة، وأن نعيد الاعتبار لفكرة أن المادة قد تكون واعية، أو على الأقل قابلة للوعي، وهذا يتسق مع كثير من الأدلة التأملية والعلمية."

رابعًا: سر عدم فقهنا لتسبيح الكائنات – حكمة الغيب وسكون الوعي البشري

مع أن القرآن يؤكد على أن كل شيء يسبّح بحمد الله، إلا أنه ينبه بوضوح: ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44] وهنا يتولد سؤال مشروع: لماذا لا نفقه تسبيحهم؟ وهل عدم فقهنا دليل على أنهم لا يسبّحون بوعي؟

التفسير الإيماني: رحمة إلهية في الحجب: يرى كثير من العلماء المسلمين أن من حكمة الله ألا يُسمعنا أصوات تسبيح الموجودات، لأن إدراك ذلك الإدراك سيكون فوق قدرة النفس البشرية، بل قد يتحول إلى عبء عصبي رهيب. يقول الدكتور نور الدين أبو لحية في كتابه "أكوان الله": "لو سُمع تسبيح كل الكائنات، لتحولت الحياة إلى جحيم لا يُطاق. إن من رحمة الله أن حجب عنا هذا التسبيح، لأنه لو تجلّى لأرهق السمع والبصر، وأفقد الإنسان قدرته على التدبر والتفكر." (أبو لحية، 2019، ص.156)

التفسير الفلسفي: اختلاف نمط الإدراك: الإنسان، بوصفه كائنًا ماديًا زمنيًا، يملك نمطًا خاصًا من الإدراك يعتمد على اللغة والصوت والمعنى. أما تسبيح الموجودات، فقد يكون بلغةٍ لا تُقاس بأصوات، بل بالوظيفة، بالخضوع، بالاهتزاز، بالتناغم الكوني. فـ"التسبيح" هنا ليس فقط نطقًا، بل قد يكون موقفًا وجوديًا، حالة كونية من الانسجام مع الإرادة الإلهية. وقد يعبّر عنه التردد، الحركة، الضوء، أو حتى الاستقرار في القوانين الفيزيائية.

خامسًا: الوعي المترابط عبر الأكوان – التصور الإسلامي في ضوء نظريات تعدد الأكوان

مع بروز نظرية "الأكوان المتعددة" في الفيزياء النظرية، بدأ التفكير يتجه نحو: هل توجد مخلوقات عاقلة في أكوان أخرى؟ وهل تسبّح بحمد خالقها كما نحن؟ وهل هناك وعي كوني متصل يمتد عبر الأكوان؟

1. تعدد مستويات الوعي: القرآن يشير في مواضع عدة إلى تعددية الخلق: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ وهذا التنزيل يُفهم – لغويًا وتفسيرًا – على أنه يشير إلى وجود مخلوقات في هذه الأكوان تتلقى "أمرًا" من الله، أي نوعًا من الوحي أو الرسالة أو الأمر التكويني. يقول الفيلسوف ديفيد تشالمرز: "قد تكون الأكوان المتعددة ذات درجات مختلفة من الوعي، تمامًا كما تختلف الكائنات في كوننا في درجة إدراكها." (Chalmers, 2018, p.137)

2. تفاعل بين الأكوان: تنزُّل الأمر، وتشابك الوعي: الآية: ﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ قد تُقرأ في ضوء الفيزياء المعاصرة كإشارة إلى تواصل حقيقي بين الأكوان، عبر ما يشبه "قنوات روحية"، أو كما يسميها بعض الفيزيائيين "التشابك الكمي بين الأكوان". يقول العالم برايان جوزيف سون (الحائز على نوبل): "قد يكون هناك تواصل بين الأكوان المختلفة عبر ظواهر كمومية، وهذا قد يفسر بعض الظواهر الغريبة في كوننا." (Josephson, 2019, p.89) وإن صح ذلك، فإن الوعي الكوني ليس محصورًا في كوننا، بل هو شبكة ممتدة عبر الأكوان، تسري فيها "أوامر الله"، ويمتد فيها "تسبيحه"، وتتصل فيها قلوب المخلوقات العاقلة – مهما اختلف شكلها – بخالقها.

من وعي الذرة إلى وعي المجرة... كل شيء يسبّح بحمده

إننا، ونحن نعيش في هذا الكون المشاهد، نظن في أحيان كثيرة أننا مركز الإدراك، وأن وعينا هو معيار الحياة والعقل. غير أن آيات القرآن، وتلميحات العلم الحديث، تُعيد ضبط هذا التصور، وتهمس في وجداننا بحقيقة مهيبة: لسنا وحدنا مَن يَعي، ولسنا وحدنا من يسبّح، ولسنا وحدنا من يُخضع وِجدانه لخالقه. حين يخبرنا القرآن أن: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44] فهو لا يعرض لنا معلومةً كونيةً باردة، بل يُقرّع وعينا بأننا نعيش في كون كل ذرة فيه مكلّفة بالعبادة، وكل جسيم فيه يخضع لأمر ربه، حتى وإن جهلنا كيف أو متى.

لقد أصبح بإمكاننا اليوم – بفضل العلم الحديث – أن نتخيل جسيمًا كموميًا يتأثر بما يحدث في مجرة بعيدة، وأن نصدّق بإمكانية أن ترتبط الأكوان بعضها ببعض بتشابك لا يُرى... فهل بعد هذا، يصعب علينا أن نُصدّق أن "كل شيء يسبّح بحمده"؟ وإذا كانت الأكوان المتعددة حقيقة، فإن الوعي ليس ظاهرة حصرية بدماغ الإنسان الأرضي، بل قد يكون نسيجًا ممتدًا عبر الخلق، تعزفه الأكوان كلٌّ بطريقتها، في سيمفونية كونية لا تسمعها آذاننا، لكنها تملأ الوجود. في أحد هذه الأكوان، قد يكون هناك مخلوق لا يُشبهنا، ولا يفكر مثلنا، لكنه – في عمق ذاته – يعرف ربّه، ويسبّح بحمده، وينتظر يومًا موعودًا يجتمع فيه كل الخلق من كل الأكوان في محكمة واحدة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4] فسبحان من علّمنا كيف نرى في صوت الطير صلاة، وفي ارتعاش الذرة تسبيحًا، وفي خضوع المجرات وعيًا... وسبحان من وسع كل شيء علمًا، وأخفى عنّا بعضًا من هذا الوعي، رحمةً بنا، وتذكيرًا لنا بأن الكون كله حي، مسبِّح، عابد... ونحن جزء من نشيده.

الوعي الكوني المترابط عبر الأكوان

مخلوقات عاقلة من عوالم مختلفة تتصل بخيوط ضوء عصبية، تمتد عبر الكون المتعدد كشبكة وعي عظيمة تنبض بالفكر والمشاعر.

المبحث الحادي عشر: رحلة تأملية عبر الأكوان المتعددة – دعوة للتفكر والاكتشاف

بين العلم والتأمل

تأمل معي هذا المشهد: أنت تجلس في ليلة صافية على قمة جبل، ترنو بعينيك إلى النجوم المتلألئة في السماء. تتساءل عن الأكوان البعيدة، وعن إمكانية وجود عوالم موازية لعالمنا، قد تكون لها قوانين مختلفة، وكائنات مختلفة، ووعي مختلف. هذا التأمل الذي قد يبدو للوهلة الأولى خيالاً علمياً محضاً، يجد له صدى عميقاً في الإشارات القرآنية وفي بعض النظريات العلمية الحديثة. في ختام رحلتنا عبر الأكوان المتعددة، ندعوك عزيزي القارئ للمشاركة الفاعلة في هذه الرحلة المعرفية، من خلال تأملات وأنشطة تساعدك على استكشاف هذا الموضوع العميق بنفسك، وربط المعرفة النظرية بالتجربة الشخصية والتفكر الذاتي.

أولاً: تأملات فكرية – أفق المستحيل

النسخ البديلة: من أكون في العوالم الأخرى؟ "لخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [غافر: 57] تأمل في آيات الله الكونية وتخيل: لو أن الخيارات التي اتخذتها في حياتك كانت مختلفة، هل ستكون أنت نفس الشخص الذي أنت عليه الآن؟ وإذا كان هناك كون موازٍ توجد فيه نسخة أخرى منك، اتخذت مساراً مختلفاً في الحياة، هل ستظل تحمل نفس جوهرك الروحي والإنساني؟ قد تجد نفسك تتساءل: هل هناك نسخة مني في كون آخر أكثر نجاحاً أو سعادة؟ هل هناك نسخة أخرى تواجه تحديات وصعوبات مختلفة؟ وما هي خياراتها في مواجهة تلك التحديات؟ هذا التأمل يدعونا للتفكير في العلاقة بين الخيارات والهوية، وفي جوهر ما يجعلنا نحن "نحن" بغض النظر عن الظروف والخيارات المختلفة.

القدر والاختيار في إطار الأكوان المتعددة: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" [التكوير: 29] كيف يمكن أن يؤثر الإيمان بوجود أكوان متعددة على فهمنا لمفهوم القضاء والقدر؟ إذا كانت كل الاحتمالات الممكنة تتحقق في أكوان مختلفة، فهل يعني ذلك أن مفهوم الاختيار الإنساني يصبح أكثر تعقيداً؟ يذكرنا القرآن الكريم بأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً، وأن القضاء والقدر من أصول الإيمان. فإذا كانت هناك أكوان متعددة، فإنها جميعاً تخضع لإرادة الله وعلمه المحيط، وما تعدد الاحتمالات والنتائج إلا مظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته. تأمل في هذه المسألة العميقة: هل وجود أكوان متعددة يزيد من مساحة حريتنا أم يؤكد على شمولية القدر الإلهي؟

حوار عبر الأكوان: أسئلة للكائنات الأخرى: "وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ" [الطلاق: 12] لو افترضنا وجود كائنات عاقلة في أكوان أخرى، وكان بإمكاننا التواصل معها، ما الأسئلة التي ستطرحها عليها؟ هل ستسألها عن طبيعة العالم الذي تعيش فيه؟ عن قوانين الفيزياء التي تحكم كونها؟ عن تصورها للخالق وعلاقتها به؟ تشير الآية الكريمة إلى "تنزل الأمر" بين السماوات والأرضين، فهل لهذه العوالم رسالة سماوية وكتب سماوية منزلة؟ وهل تشترك في القيم والمبادئ الأخلاقية الأساسية؟ ضع قائمة بالأسئلة الخمسة الأولى التي ستطرحها على كائنات من عالم مواز، وتأمل في الإجابات المحتملة وفي دلالاتها العميقة على فهمنا للوجود والخلق.

لوحة الأسئلة الكونية الخمسة

1. ما الغاية من وجودكم في عالمكم؟ هل أنتم مخلوقون لهدف كما نُؤمن نحن؟ أم ترون الحياة سرياناً بلا غاية؟
2. ما القانون الأعلى الذي يحكم أخلاقكم؟ هل تعرفون شيئاً يشبه الخير والشر؟ وهل هو مكتسب من وحي؟ أم متطور من بيئتكم؟
3. هل تتلقون شيئاً شبيهاً بالوحي؟ هل تتنزل عليكم رسالات من خالق؟ وهل تعرفون اسمه؟ صفاته؟
4. هل تملكون حرية الإرادة؟ هل تختارون أفعالكم أم أنكم مبرمجون بيولوجيًا؟
5. كيف تتخيلون نهاية عوالمكم؟ هل تؤمنون بيوم حشر؟ أم تنتهون إلى عدم؟ أم هناك دورة وجود أخرى؟

ثانياً: أنشطة علمية – في رحاب المعرفة

الاطلاع على آخر الدراسات العلمية: العلم في مجال الفيزياء النظرية والكونيات يتطور بسرعة هائلة، وكل يوم تظهر أفكار ونظريات جديدة. للبقاء على اطلاع بآخر التطورات في مجال الأكوان المتعددة ونظرية الأوتار الفائقة، ندعوك للاطلاع على المقالات العلمية المحكمة في مجلات مثل: Physical Review D, Journal of Cosmology and Astroparticle Physics (JCAP), Classical and Quantum Gravity. يمكنك البحث عن هذه المقالات في قواعد البيانات العلمية مثل: arXiv.org (قسم الفيزياء النظرية وفيزياء الجسيمات الأولية), Google Scholar, Science Direct. ابحث عن المصطلحات التالية: "Multiverse Theory"، "String Theory"، "Parallel Universes"، "Quantum Cosmology"، "M-Theory".

استكشاف السلاسل الوثائقية العلمية: لفهم أعمق وأكثر تبسيطاً لنظريات الأكوان المتعددة، يمكنك متابعة السلاسل الوثائقية العلمية التالية: 1. "الكون" (The Universe) من إنتاج قناة History Channel، وخاصة الحلقات المتعلقة بالأكوان المتعددة. 2. "Cosmos: A Spacetime Odyssey" للعالم نيل ديجراس تايسون. 3. "Through the Wormhole" الذي يقدمه مورغان فريمان، وخاصة الحلقات المتعلقة بالأبعاد المتعددة والأكوان الموازية. 4. "Brian Greene's The Elegant Universe" وهو وثائقي مبسط حول نظرية الأوتار والأكوان المتعددة.

التواصل مع مجتمعات النقاش العلمي: المعرفة تنمو وتتطور من خلال المناقشات والتفاعل مع الآخرين. للمشاركة في نقاشات علمية حول العلاقة بين القرآن الكريم والنظريات الكونية الحديثة، يمكنك: 1. الانضمام إلى المنتديات العلمية المتخصصة مثل "منتدى الإعجاز العلمي في القرآن والسنة". 2. المشاركة في مجموعات النقاش عبر الإنترنت على منصات مثل Reddit (مثل r/Islam_Science) أو Facebook. 3. حضور المؤتمرات والندوات العلمية التي تناقش العلاقة بين الدين والعلم. 4. التواصل مع علماء وباحثين مسلمين في مجالات الفيزياء النظرية والكونيات والإعجاز العلمي.

ثالثاً: المشاريع البحثية – من المعرفة إلى الإبداع

بحث مقارن بين الإشارات القرآنية والنظريات العلمية: ندعوك للقيام ببحث مصغر (5-10 صفحات) يقارن بين الإشارات القرآنية للأكوان المتعددة وما توصل إليه العلم الحديث. يمكن أن يتضمن البحث: 1. تجميع وتحليل الآيات القرآنية المتعلقة بالسماوات السبع والأراضين السبع. 2. استعراض تفسيرات العلماء القدامى والمعاصرين لهذه الآيات. 3. مقارنة هذه التفسيرات مع النظريات العلمية الحديثة حول الأكوان المتعددة. 4. استكشاف أوجه التوافق والاختلاف بين المنظور القرآني والنظريات العلمية. يمكنك مشاركة هذا البحث مع أصدقائك أو نشره في المنتديات العلمية المتخصصة للحصول على تعليقات وإثراء النقاش.

تصميم نموذج بصري للأكوان المتعددة: باستخدام مهاراتك الفنية أو البرمجية، قم بتصميم نموذج بصري يوضح فكرة الأكوان المتعددة من المنظور القرآني. يمكن أن يكون هذا النموذج: 1. رسماً توضيحياً للسماوات السبع والأراضين السبع كما وصفها القرآن والأحاديث النبوية. 2. تصميماً ثلاثي الأبعاد (باستخدام برامج مثل Blender أو Maya) يمثل تصوراً للأكوان المتعددة. 3. محاكاة تفاعلية (باستخدام برامج مثل Unity أو Unreal Engine) تسمح للمستخدم بالتنقل افتراضياً بين الأكوان المختلفة.

رابعاً: التأمل الروحي – رؤية أعمق

التأمل في عظمة الخالق عبر الأكوان: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" [فصلت: 53] خصص وقتاً كل أسبوع للتأمل في عظمة الخالق من خلال النظر في السماء والتفكر في إمكانية وجود أكوان متعددة. اجلس في مكان هادئ، وتأمل كيف أن الكون بكل اتساعه وتعقيده وجماله هو آية من آيات الله، وكيف أن إمكانية وجود أكوان متعددة تزيد من روعة هذه الآية وعظمتها. يمكنك تسجيل تأملاتك ومشاعرك في مذكرة خاصة، وملاحظة كيف يتغير إحساسك بالكون والوجود مع مرور الوقت وتعمق تأملاتك.

قراءة وتدبر الآيات الكونية في القرآن: خصص وقتاً لقراءة وتدبر الآيات القرآنية التي تتحدث عن خلق السماوات والأرض وتنظيم الكون. من هذه الآيات: - ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ [الطلاق: 12] - ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3] - ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ [الأنبياء: 30] - ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]. تأمل في هذه الآيات وغيرها، واكتب تفسيراً شخصياً لها في ضوء ما تعلمته عن الأكوان المتعددة والنظريات العلمية الحديثة.

"رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [آل عمران: 191]

خاتمة: آفاق مستقبلية

إن الإنسان في رحلته المعرفية لا يزال في بداية الطريق، وكلما تقدم العلم وتطورت أدواته، كلما اكتشف المزيد من أسرار هذا الكون البديع، وكلما ازداد إدراكاً لعظمة الخالق سبحانه وتعالى. يقول الدكتور منصور أبو شريعة: "وإذا ما استمر العلماء في أبحاثهم بهذه الجدية، فمن غير المستبعد أن يتمكنوا من تحديد عدد هذه الأكوان وأبعادها وهندستها، ولا بد أنها ستتطابق مع ما أوحى الله عز وجل به في القرآن الكريم حول السماوات السبع" (أبو شريعة، 2018، ص.24)

كما أن فهم الكون كنظام واعٍ يسبح بحمد الله ويقنت له يعزز من شعور الإنسان بالانتماء إلى هذا الكون، ويدفعه للتفكر في آيات الله وعظمته، ويحثه على المشاركة في هذا التسبيح الكوني العظيم. وبينما يتقدم العلم وتتطور نظرياته، تبقى الحقائق القرآنية ثابتة، تنتظر أن يصل إليها العلم. وقد رأينا كيف أن نظرية الأكوان المتعددة التي تُعد من أحدث النظريات الفيزيائية، تقترب شيئاً فشيئاً مما أخبرنا به القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً عن السماوات السبع والأرضين السبع.

وفي هذا السياق، يمكننا أن نتساءل: هل يستطيع البشر يوماً ما أن يتواصلوا مع هذه الأكوان الأخرى؟ وهل يمكن أن نكتشف الحواجز التي تفصل بينها؟ وما طبيعة المخلوقات العاقلة التي تعيش فيها وكيف تستجيب لوحي ربها؟ هذه الأسئلة وغيرها تفتح آفاقاً واسعة للبحث العلمي والتأمل الفلسفي والتدبر الديني في المستقبل. وكما أن علماء الفيزياء الفلكية واصلوا أبحاثهم لاكتشاف أسرار الكون، فإن علماء التفسير والإعجاز العلمي مدعوون لمواصلة تدبرهم في آيات الله المتلوة والمشهودة، للكشف عن المزيد من أوجه الإعجاز في القرآن الكريم.

وبينما تتسارع المعادلات، وتتشعب الأكوان، ويجتهد الإنسان في رسم خريطة الوجود، يبقى القرآن شامخًا، لا يسبق العلم بسنوات فحسب ... بل يعلوه بأفق الرؤية، وسمو الغاية، وعمق المقصد.

إنها ليست رحلة في الأكوان فحسب، بل رحلة في أنفسنا، نحو خالق الأكوان، ومصدر الوعي، ومبدأ التسبيح. فما أبعد الطريق... وما أعظم الوعد... وما أكرم الله.

وصدق الله القائل سبحانه وتعالى:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت 53)
والله أعلم وأحكم

شاركنا تأملاتك

ع

عبد الله

منذ ساعة

مقال رائع جداً، الربط بين نظرية الأوتار وتفسير ابن عباس يفتح آفاقاً جديدة للتفكير. شكراً لكم.