الفصل الثاني
سيمفونية الوجود المسبّح لخالقه
يتناول هذا الفصل ظاهرة "التسبيح الكوني" – وهي حقيقة أن الكون بأسره، من الذرة إلى المجرة، يسبّح بحمد خالقه. يستعرض الفصل الآيات القرآنية التي تؤكد عمومية التسبيح، ثم يفصّل الكيفية والمقاصد من ذلك التسبيح. بعد ذلك، يربط الفصل بين المفهوم القرآني للتسبيح وبعض المفاهيم العلمية الحديثة مثل الترددات والذبذبات والطاقة والنظام، مقترحاً أن هذه الظواهر الفيزيائية قد تكون شكلاً من أشكال التعبير عن تسبيح الموجودات بحمد ربها.
عندما تستيقظ في الصباح الباكر، تسمع تغريد العصافير على الأشجار القريبة، وتشعر بنسمات الهواء اللطيفة، وترى الشمس وهي تشرق بألوانها الذهبية على الأفق. قد تظن أن هذا كله مجرد "طبيعة" صامتة، تتحرك وفقاً لقوانين فيزيائية باردة. لكن القرآن الكريم يخبرنا بحقيقة مدهشة: إن كل ما تراه وتسمعه وتشعر به، بل وما لا تستطيع إدراكه من حولك، إنما هو في حالة تسبيح دائم لله تعالى.
إنها سيمفونية كونية عظيمة، يشارك فيها كل موجود، من أصغر جسيم ذري إلى أكبر مجرة في الكون. كلٌّ يردد لحنه الخاص من التسبيح، بطريقة لا ندركها بحواسنا المحدودة، لكننا نستطيع أن نتيقن من وجودها بنور الوحي وبالتأمل العميق في عظمة الخلق.
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾
الإسراء: 44
تبرز الآيات القرآنية بوضوح لا لبس فيه حقيقة أساسية: إن التسبيح ليس فعلاً محصوراً بالملائكة أو بالبشر المؤمنين، بل هو حالة كونية شاملة يشارك فيها كل شيء في السماوات والأرض.
الآية الكريمة التي افتتحنا بها تأتي بصيغة النفي والإثبات القاطعة: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾. هذا التعبير يفيد الحصر والشمولية، أي أن كل شيء – بدون استثناء – يسبح بحمد الله.
يقول الإمام الطبري رحمه الله في تفسيره: "وما من شيءٍ من الأشياء إلا يسبح بحمد الله، يعني: يصلي له، ويعظمه، ويوحده. وقوله: ﴿وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ يقول: ولكنكم أيها الناس لا تفهمون تسبيح هذه الأشياء التي تسبح ربها، لأن تسبيحها بخلاف تسبيحكم الذي تعرفونه من أنفسكم، فأنتم لا تفقهونه، وإن كانت مسبحة."
(تفسير الطبري، 17/489)
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
الحديد: 1
افتتحت سورة الحديد، وسور أخرى مثل الحشر والصف والجمعة والتغابن، بإعلان هذه الحقيقة الكونية الكبرى: أن كل ما في السماوات والأرض يسبح لله. واستخدام صيغة الماضي "سَبَّحَ" يفيد الاستمرارية والثبوت، أي أن هذا التسبيح ليس حدثاً عارضاً، بل هو حالة دائمة ومتجددة.
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾
الرعد: 13
الملائكة، وهم مخلوقات نورانية خُلقت من نور، يسبّحون الله آناء الليل والنهار. ولكن اللافت في هذه الآية هو ذكر تسبيح الملائكة جنباً إلى جنب مع تسبيح الرعد، مما يوحي بأن كليهما يشتركان في حقيقة التسبيح، وإن اختلفت كيفيته.
يقول ابن كثير رحمه الله: "وهذه الآية تدل على أن الرعد مَلَك، أو له ملك يسبح الله تعالى، كما أن البرق له ملك كما ثبت في الحديث. والملائكة أيضاً يسبحون الله من خيفته أي من خوفه وإجلاله."
(تفسير ابن كثير، 4/444)
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾
ص: 18-19
في قصة نبي الله داود عليه السلام، نجد معجزة فريدة: فقد سخّر الله له الجبال والطير لتسبح معه. والآية تصف الجبال بأنها "يُسَبِّحْنَ" والطير بأنها "أَوَّاب" (أي راجعة إلى الله بالتسبيح). هذا التسبيح لم يكن مجرداً، بل كان يُسمع ويُحس، حتى أن داود عليه السلام كان يشارك فيه ويؤوب معهم.
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾
الأنبياء: 79
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾
الحج: 18
السجود هو أعلى درجات الخضوع والعبادة، وهو يتضمن معنى التسبيح. فإذا كانت الشمس والقمر والنجوم – تلك الأجرام العظيمة التي تسير بنظام دقيق – تسجد لله، فهذا يعني أن حركتها المنتظمة ودورانها المستمر هو شكل من أشكال السجود والتسبيح.
لم يقتصر القرآن الكريم على ذكر تسبيح الكائنات الحية أو الأجرام السماوية، بل أكد أن حتى ما نعتبره "جماداً" صامتاً إنما يسبح بحمد الله.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل."
(رواه البخاري)
عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حصى بيده، فسُمِع لهن تسبيح كحنين النحل.
(رواه أحمد)
هذه الأحاديث تؤكد أن التسبيح حقيقي وليس مجازياً، وأن الصحابة كانوا يسمعون تسبيح هذه المخلوقات بطريقة محسوسة في بعض الأحيان، كرامة ومعجزة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
بعد أن تبيّن لنا أن التسبيح عام وشامل لكل شيء، يطرح السؤال الطبيعي: كيف تسبّح هذه المخلوقات؟ وما هي الطريقة أو الكيفية التي يتم بها هذا التسبيح؟
اختلف العلماء في تفسير كيفية تسبيح المخلوقات على قولين رئيسيين:
يرى بعض العلماء أن تسبيح المخلوقات هو "تسبيح دلالة" لا "تسبيح مقالة"، أي أن نظامها وإتقان خلقها يدل على عظمة خالقها، فكأنها بهذا النظام تنطق بالتسبيح من خلال دلالتها على الصانع الحكيم.
قال الزمخشري: "تسبيح الجمادات هو ما فيها من الدلالة على صانعها، كأنها بها ناطقة بالتسبيح."
(الكشاف، 2/659)
يرى جمهور أهل السنة أن التسبيح حقيقي وليس مجازياً، وأن كل مخلوق له لسان خاص به يسبح بحمد الله، لكننا لا نفقه هذا التسبيح لأنه خارج نطاق إدراكنا الحسي والعقلي.
قال ابن تيمية رحمه الله: "والتسبيح يكون من كل مخلوق، كما قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، وهذا عام في كل شيء، ولفظ الشيء من أعم الألفاظ، فيدخل فيه كل موجود سوى الله، الحي والميت، والجماد والحيوان، فكل شيء يسبح بحمده، وإنما قال: ﴿وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ لأن تسبيحهم ليس من جنس كلامنا المعتاد."
(مجموع الفتاوى، 11/125)
هناك عدة أدلة قوية على أن التسبيح حقيقي وليس مجازياً:
لو كان التسبيح مجرد دلالة على الصانع، لما كان هناك معنى للتعقيب بأننا "لا نفقه تسبيحهم"، فدلالة الصنعة على الصانع أمر نفقهه ونفهمه. لكن القرآن يخبرنا أن هناك تسبيحاً حقيقياً لكننا لا ندركه.
الفعل المضارع في العربية يفيد التجدد والاستمرار، مما يدل على أن التسبيح فعل متجدد ومستمر، وليس مجرد دلالة ثابتة.
كما مر معنا من أحاديث سماع تسبيح الحصى والطعام، فهذه تدل على أن التسبيح حقيقي، وأن الله قد يُسمعه لمن يشاء من عباده.
لو كان تسبيح الجبال مجرد دلالة على الصانع، فما معنى تسخيرها لداود؟ ولماذا يُذكر أنها كانت "تُسَبِّح معه"؟ هذا يدل على أن هناك تسبيحاً حقيقياً مسموعاً.
ربما الأدق أن نقول إن التسبيح يجمع بين الجانبين: فهناك تسبيح حقيقي بلسان خاص لا ندركه، وهناك أيضاً تسبيح بلسان الحال من خلال دلالة النظام والإبداع في الخلق.
كل مخلوق يسبح الله تعالى بطريقتين متكاملتين:
وهذا التسبيح المزدوج يعكس حقيقة أن كل شيء في الكون يشهد لله بالوحدانية والعظمة، بلسان الظاهر وبلسان الباطن.
لماذا يسبّح الكون؟ وما الغاية من هذا التسبيح الشامل؟ للإجابة على هذه الأسئلة، نستعرض بعض الحِكَم والمقاصد العظيمة:
التسبيح هو إعلان من كل موجود أنه عبد لله، خاضع لأمره، مسخّر بقدرته. فليس في الكون "مادة محايدة" أو "قوانين عمياء"، بل كل شيء فيه حياة روحية وعبودية خاضعة.
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
النحل: 49
حين ندرك أن كل شيء حولنا يسبح بحمد الله، فإن ذلك يضعنا أمام حقيقة أننا لسنا وحدنا في هذا الوجود، بل نحن جزء من سيمفونية كونية عظيمة. وهذا الوعي يجعلنا أكثر تواضعاً وأكثر ارتباطاً بخالق الكون.
لو كان الكون مجرد آلة ميكانيكية صماء، لكان من الممكن أن يُتصور أنه نشأ بالصدفة. لكن حين ندرك أن كل ذرة فيه تسبح بحمد الله، ندرك أن وراء هذا الكون قصداً وحكمة وتدبيراً.
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
النور: 24
إذا كانت أعضاء الإنسان نفسه ستشهد عليه يوم القيامة، فكذلك ستشهد عليه عناصر الكون التي استخدمها في معصية الله. فالأرض التي عصى الله عليها، والهواء الذي تنفسه، والماء الذي شربه، كل ذلك سيشهد عليه.
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا﴾
الزلزلة: 4-5
على الرغم من أننا لا نفقه تسبيح المخلوقات بشكل حسي مباشر، إلا أن الله تعالى أعطانا العقل والوحي لندرك هذه الحقيقة. وبهذا الإدراك، نستطيع أن نرتقي إلى مستوى أعلى من الوعي الكوني، حيث نشارك في التسبيح عن وعي وإرادة، لا عن تسخير فقط.
في السنوات الأخيرة، بدأ العلم الحديث يكتشف ما يمكن أن يُفسَّر على أنه أشكال من "التعبير الكوني" أو "اللغة الكونية"، تتجسد في ترددات وذبذبات وموجات تملأ الكون. هل يمكن أن تكون هذه الترددات شكلاً من أشكال التسبيح الكوني الذي تحدث عنه القرآن؟
من أهم الحقائق التي أثبتها العلم الحديث أن كل شيء في الكون – من أصغر الجسيمات الذرية إلى أكبر المجرات – في حالة اهتزاز وذبذبة مستمرة.
وفقاً لنظرية الأوتار الفائقة (String Theory)، فإن الجسيمات الأولية ليست نقاطاً صغيرة، بل هي "أوتار" دقيقة جداً تهتز بترددات مختلفة. كل نوع من الجسيمات – الإلكترون، الفوتون، الكوارك – ينتج عن نمط اهتزاز معين لهذه الأوتار. فكأن الكون كله عبارة عن "سيمفونية كونية" من الأوتار المهتزة!
حتى في الذرة الواحدة، فإن الإلكترونات تدور حول النواة بسرعات هائلة، والنواة نفسها تتكون من بروتونات ونيوترونات في حالة حركة دائمة. وداخل البروتونات والنيوترونات، هناك كواركات تتحرك وتتفاعل. إنها حركة دائبة على مستويات متعددة، كأنها "تسبيح" لا ينقطع.
في عام 2003، اكتشف علماء الفلك شيئاً مذهلاً: موجة صوتية هائلة تنبعث من ثقب أسود عملاق في مركز عنقود مجرات Perseus.
باستخدام مرصد تشاندرا الفضائي للأشعة السينية التابع لناسا، اكتشف العلماء أن الثقب الأسود في مركز عنقود Perseus يصدر موجة صوتية بتردد منخفض جداً، أقل بـ 57 أوكتاف من الدو الأوسط (Middle C) على البيانو! هذه الموجة الصوتية، التي تستمر منذ ملايين السنين، تتسبب في تموجات في الغاز الساخن المحيط بالثقب الأسود.
عندما نشرت ناسا هذا الاكتشاف، علّق بعض العلماء بأن الكون "يغني" أو "يصدر نغماً"، وهو ما أثار تأملات عميقة حول ما ذكره القرآن من أن كل شيء يسبح بحمد الله.
المصدر: NASA (2003) - "Black Hole Sound Waves"
إشعاع الخلفية الكونية الميكروية هو "صدى" الانفجار العظيم (أو الفتق الكبير كما يشير إليه القرآن)، وهو إشعاع منتشر في كل أنحاء الكون، يحمل معلومات عن بداية الخلق.
يمكن تحليل التقلبات الدقيقة في إشعاع الخلفية الكونية على أنها "نغمات" أو "ترددات صوتية" كانت موجودة في الكون المبكر. هذه "النغمات الكونية" هي التي حددت بنية الكون كما نراه اليوم. يسميها العلماء "الأصداء الصوتية البدائية" (Primordial Sound Waves).
فكأن الكون بدأ بـ"نغمة خلق" أو "كلمة إلهية"، ثم استمرت أصداؤها تتردد عبر المليارات من السنين، مشكّلة النجوم والمجرات!
كل جسم في الكون، بما في ذلك النجوم والمجرات والكواكب، يصدر موجات كهرومغناطيسية بترددات مختلفة. هذه الموجات تحمل "توقيعاً" فريداً عن كل جسم.
عندما نحلل الضوء القادم من نجم بعيد، نجد أنه يحتوي على "خطوط طيفية" معينة تخبرنا عن تركيب ذلك النجم ودرجة حرارته وحركته. إنها كأنها "لغة" ينطق بها النجم، يخبرنا من خلالها عن نفسه. بل إن كل عنصر كيميائي في الكون له "بصمة طيفية" فريدة، كأنه "صوت" خاص به يميزه عن غيره.
في عام 2015، أحدث اكتشاف الموجات الثقالية (Gravitational Waves) ثورة في علم الفلك. هذه الموجات هي "تموجات" في نسيج الزمكان نفسه، تنتج عن الأحداث الكونية العنيفة مثل اصطدام الثقوب السوداء.
عندما رصد مرصد LIGO الموجات الثقالية لأول مرة، قام العلماء بتحويل هذه الموجات إلى صوت مسموع. كان الصوت يشبه "زقزقة" أو "تغريدة" قصيرة – وهو ما أطلق عليه العلماء "chirp". هذا الصوت، الذي يأتي من اصطدام ثقبين أسودين على بعد مليار سنة ضوئية، هو فعلاً "صدى" من أحداث كونية عظيمة، كأنه تسبيح من نوع مختلف.
كل جسم في الكون له "تردد رنين" طبيعي (Natural Resonance Frequency) – وهو التردد الذي يهتز به الجسم بشكل طبيعي عند إثارته.
الآن نصل إلى السؤال المحوري: هل هذه الترددات والذبذبات الكونية هي شكل من أشكال "التسبيح" الذي تحدث عنه القرآن؟
يمكننا أن نقترح، من منظور علمي-قرآني متكامل، أن هذه الترددات والذبذبات قد تكون أحد المظاهر المادية القابلة للرصد لظاهرة التسبيح الكونية. فكما أن الإنسان يسبح بلسانه (وهو أداة مادية تصدر ترددات صوتية)، فربما كل شيء في الكون له "لسانه" الخاص الذي يسبح به، وهذا اللسان قد يتجلى في صورة ترددات وذبذبات.
لكن يجب الحذر من الوقوع في "التفسير الاختزالي": فالتسبيح الكوني أعمق وأشمل من مجرد ذبذبات فيزيائية. إنه يتضمن بُعداً روحياً وميتافيزيقياً لا يمكن للعلم المادي أن يدركه بالكامل. لكن الذبذبات والترددات قد تكون أحد "المظاهر" أو "الآثار" المادية لهذا التسبيح.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تسبيح المخلوقات غير العاقلة (كالجبال والأشجار والنجوم) يتم بوعي منها أم هو مجرد تسخير قهري؟
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾
الرعد: 15
هذه الآية تشير إلى أن السجود (وبالتالي التسبيح) يحدث "طوعاً" أو "كرهاً". وهذا يدل على أن هناك درجة من الإرادة في هذا الفعل، وإن كانت تختلف عن الإرادة الإنسانية الواعية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: "المؤمن يسجد لله طوعاً، والكافر يسجد لله كرهاً، أي بظله إن أبى هو بنفسه."
(تفسير الطبري)
لكن بعض المفسرين يرون أن التسبيح الطوعي يشمل أيضاً تسبيح الكائنات غير العاقلة التي تسبح بطبيعتها السليمة، بينما التسبيح الكرهي يشمل ما يسبح رغماً عنه بالتسخير.
ربما من الأدق أن نتحدث عن "درجات" أو "مستويات" من الوعي، بدلاً من الحكم بوجوده أو عدمه بشكل مطلق:
يمكن القول إن كل مخلوق قد فُطر على التسبيح، بمعنى أن طبيعته الأصلية تقتضي أن يسبح بحمد الله، حتى وإن لم يكن واعياً بهذا التسبيح بالمعنى الإنساني للوعي.
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
الروم: 30
فكما أن الإنسان مفطور على الإيمان بالله، فكذلك كل مخلوق مفطور على التسبيح بحمده. إنها "فطرة كونية" شاملة.
من أبرز مظاهر التسبيح الكوني: النظام المذهل الذي يسود الكون. فكل شيء يسير وفق قوانين دقيقة، وكل جرم سماوي يتحرك في مداره بانتظام، وكل عملية طبيعية تتبع سنناً ثابتة.
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
يس: 38-40
هذه الآيات تصف حركة الأجرام السماوية بأنها "سباحة" في فلكها. والسباحة تعني الحركة بانسيابية ونظام. فحركة الكواكب والنجوم في مداراتها هي شكل من أشكال التسبيح، لأنها حركة منضبطة تخضع لإرادة الله وتدبيره.
القوانين الفيزيائية الثابتة (مثل قانون الجاذبية، قوانين الديناميكا الحرارية، قوانين الكهرومغناطيسية) ليست مجرد "قواعد آلية"، بل هي تعبير عن "طاعة" الكون لخالقه.
من أكثر الأمور المذهلة في الكون هو ثبات ما يسمى "الثوابت الفيزيائية الأساسية" (Fundamental Physical Constants)، مثل:
هذه الثوابت لا تتغير عبر الزمن أو المكان، وهي مضبوطة بدقة متناهية بحيث لو تغيرت قليلاً لانهار الكون. يمكن النظر إلى هذا الثبات على أنه "طاعة" الكون لأمر ربه، وشكل من أشكال "الانضباط الكوني" الذي هو تعبير عن التسبيح.
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾
الرحمن: 7-9
"الميزان" في الآية الكريمة لا يعني فقط العدل الاجتماعي، بل يشمل أيضاً التوازن الكوني الشامل. فكل شيء في الكون مضبوط بميزان دقيق:
هذا التوازن الدقيق هو شكل من أشكال التسبيح، لأنه يعكس الحكمة الإلهية والتدبير الرباني.
في السنوات الأخيرة، ازداد الحديث عن "الطاقة الإيجابية" و"الذبذبات الإيجابية" وتأثيرها على الإنسان والبيئة المحيطة به. هل لهذا المفهوم علاقة بالتسبيح الكوني؟
من المعروف علمياً أن الموجات الصوتية يمكن أن تؤثر على المادة بطرق مذهلة.
في تجارب Cymatics الشهيرة، يتم وضع مسحوق ناعم (مثل الرمل) على سطح معدني، ثم يتم تعريضه لترددات صوتية مختلفة. والنتيجة المذهلة: يتشكل المسحوق في أنماط هندسية جميلة ومتناسقة! كل تردد صوتي ينتج نمطاً هندسياً مختلفاً.
هذا يوضح أن للصوت تأثيراً فيزيائياً حقيقياً على المادة، وأن الترددات المختلفة تنتج "أنظمة" أو "أشكالاً" مختلفة في المادة.
قام الباحث الياباني ماسارو إيموتو بتجارب على الماء، حيث عرّض عينات ماء لكلمات وأصوات مختلفة، ثم جمّدها وصوّر بلورات الثلج الناتجة تحت المجهر. ادعى أن الماء الذي تعرض لكلمات إيجابية (مثل "حب" أو "شكر") شكّل بلورات جميلة ومتناسقة، بينما الماء الذي تعرض لكلمات سلبية شكّل بلورات مشوهة وغير منتظمة.
ملاحظة: يجب التنويه إلى أن هذه التجارب محل جدل علمي، ولم تخضع لمعايير البحث العلمي الصارمة، لكنها مثيرة للتأمل.
إذا كان للترددات الصوتية تأثير على المادة، فمن المنطقي أن يكون للتسبيح – الذي هو صوت وتردد أيضاً – تأثير على الإنسان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم."
(رواه البخاري ومسلم)
التسبيح يجلب الطمأنينة النفسية، ويزيل التوتر، ويقوي الإيمان. وقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة أن الذكر والتسبيح لهما تأثير إيجابي قابل للقياس على نشاط الدماغ ومعدل ضربات القلب وضغط الدم.
تخيل أنك تعيش في بيئة يسبّح فيها كل شيء حولك بحمد الله! الأشجار تسبح، الطيور تسبح، الهواء يسبح، الجبال تسبح. حتى الذرات في جسدك تسبح!
هذا الوعي بأننا نعيش في "محيط من التسبيح" قد يجعلنا أكثر تناغماً مع الكون، وأكثر سكينة وطمأنينة. فعندما نسبّح، فإننا لا نسبح وحدنا، بل نشارك في سيمفونية كونية عظيمة.
كيف يمكن أن يغير فهمنا لحقيقة التسبيح الكوني طريقة حياتنا وتعاملنا مع الكون من حولنا؟
عندما ندرك أن الشجرة ليست مجرد "خشب"، بل كائن حي يسبح بحمد الله، فإننا سنتعامل معها باحترام أكبر. وعندما نعلم أن النهر يسبح بحمد ربه، فإننا سنتجنب تلويثه.
الإسلام يدعو إلى الحفاظ على البيئة باعتبارها مخلوقات تسبح بحمد الله، وليس فقط "موارد" للاستغلال البشري. فالإنسان "خليفة" في الأرض، أي وكيل عن الله في إدارتها وحمايتها، وليس مالكاً مطلقاً يفعل بها ما يشاء.
عندما نتأمل في جمال الطبيعة، ونستمع إلى أصوات الطيور، ونشاهد غروب الشمس، فإننا لا نكتفي بالاستمتاع الجمالي فحسب، بل نتذكر أن كل ذلك يسبح بحمد الله، فيزداد إيماننا وخشوعنا.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
آل عمران: 190-191
عندما نعلم أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله، فإن ذلك يشجعنا على الإكثار من التسبيح، حتى نكون جزءاً واعياً ومختاراً من هذه السيمفونية الكونية.
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟" قلت: يا رسول الله، أخبرني بأحب الكلام إلى الله. فقال: "إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده."
(رواه مسلم)
عندما نسبّح، فإننا نتناغم مع الكون المسبّح، ونشعر بأننا لسنا غرباء في هذا الوجود، بل جزء من كل أكبر. هذا الشعور بالانتماء الكوني يجلب السكينة والطمأنينة.
الفهم المادي للكون يجعله مجرد آلة صماء، بلا روح ولا هدف. لكن حين ندرك أن كل ذرة في الكون تسبح بحمد الله، فإن ذلك يكسر هذه النظرة المادية الباردة، ويفتح أمامنا آفاق المعنى والهدف والروحانية.
في هذا الفصل، استكشفنا حقيقة التسبيح الكوني كما يصورها القرآن الكريم. رأينا أن التسبيح ليس محصوراً في الملائكة أو البشر، بل هو ظاهرة كونية شاملة يشارك فيها كل شيء في السماوات والأرض، من أصغر جسيم ذري إلى أكبر مجرة في الكون.
تناولنا كيفية هذا التسبيح، وأكدنا أنه ليس مجرد تعبير مجازي، بل هو تسبيح حقيقي بلسان خاص لا نفقهه. وربطنا هذا التسبيح القرآني بمفاهيم علمية حديثة مثل الترددات والذبذبات الكونية، مقترحين أن هذه الظواهر الفيزيائية قد تكون أحد المظاهر المادية لظاهرة التسبيح الكونية.
ناقشنا أيضاً مقاصد التسبيح الكوني وحِكَمه، مؤكدين أنه تعبير عن العبودية المطلقة للكون لخالقه، وأنه دليل على حكمة الله في خلقه، وأنه سيكون شهادة على الكافرين يوم القيامة.
كما استعرضنا العلاقة بين التسبيح والنظام الكوني، مشيرين إلى أن الانضباط المذهل الذي يسود الكون، والتوازن الدقيق بين عناصره، هو شكل من أشكال التسبيح، لأنه يعكس طاعة الكون لإرادة خالقه.
وأخيراً، تطرقنا إلى التطبيقات العملية لفهم التسبيح الكوني، مؤكدين أن هذا الفهم يجب أن ينعكس على طريقة حياتنا، فنحترم الطبيعة، ونكثر من التسبيح، ونتأمل في الكون كعبادة، ونحقق التوازن النفسي والروحي.
إن إدراكنا لحقيقة التسبيح الكوني يجعلنا ندرك أننا لسنا وحدنا في هذا الوجود العظيم. بل نحن جزء من سيمفونية كونية لا تنقطع، يشارك فيها كل موجود، من أدنى ذرة إلى أعلى ملك. وعندما نسبّح بألسنتنا، فإننا نضيف صوتنا الواعي المختار إلى هذه السيمفونية، فنصبح جزءاً فعالاً وواعياً من عبادة الكون الشاملة لخالقه.
فلنسبّح معاً، ولنكن جزءاً واعياً من هذا الكون المسبّح، ولنساهم بأصواتنا في هذه السيمفونية الكونية العظيمة:
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾
الروم: 17-18