الفصل الخامس
رحلة في عالم المشاعر الكونية الخفية
يتجلى هذا الفصل كأعظم إبداعات الخالق في كشف أسرار الكون، حيث ينسج خيوط المعجزات بأنامل الإعجاز ليكشف عن سر من أعظم أسرار الوجود - حقيقة أن الكون كائن حي يتنفس بالمشاعر ويخفق بالأحاسيس. إنه فصل يحمل في طياته معجزات لا تُحصى، من بكاء السماء والأرض، إلى خشوع الجبال التي تُسجد للخالق منذ مليارات السنين، مروراً بحوار الكائنات الخفي.
يتدفق الفصل كنهر من المعرفة، يروي ظمأ العقل بينابيع الآيات القرآنية، ويروي القلب بأنهار الأحاديث النبوية، ويمزج بين نفحات العارفين ولمحات العلماء في سيمفونية معرفية تهز الوجدان.
إنه ليس مجرد فصل يُقرأ، بل عالم سحري يُعاش، وكنز معرفي لا يُفنى، ودليل إرشادي نحو فهم جديد للكون يجعل القارئ يعيد اكتشاف علاقته بكل ذرة من ذرات الوجود. في هذا الفصل الاستثنائي، تتلاقى السماوات مع الأرض في عناق روحي، وتتحاور النجوم مع الأشجار في لغة الخشوع، وتتراقص الذرات مع المجرات في رقصة التسبيح الأزلية، ليشهد على عظمة الخالق الذي أبدع هذا التناغم الكوني وجعل كل ذرة في الوجود تنطق بتوحيده وتسبح بحمده، وأن الإنسان ليس مجرد متفرج عليها، بل شريك فيها ومشارك في أحداثها.
| عنوان الموضوع | رقم الصفحة |
|---|---|
| مقدمة عن مشاعر الكون | 148 |
| المبحث الأول: الأساس المعرفي لمشاعر الكون وانفعالاته | 149 |
| الفرق بين المشاعر الإنسانية ومشاعر الكائنات الأخرى | 150 |
| المبحث الثاني: مشاعر الحزن والألم في الكون | 161 |
| بكاء السماء والأرض | 161 |
| حزن الكون على موت المؤمن | 165 |
| غيظ جهنم وزفيرها | 166 |
| تفطر السماوات وانشقاق الأرض | 169 |
| المبحث الثالث: مشاعر الخشية والتعظيم في الكون | 170 |
| خشوع الجبال وتصدعها | 170 |
| هبوط الحجارة من خشية الله | 172 |
| تلبية الكون مع المسلم: مظهر من مظاهر التناغم الكوني | 173 |
| المبحث الرابع: مشاعر الفرح والسرور في الكون | 178 |
| فرح الأرض بنزول المطر | 178 |
| مذاكرة الكائنات وحوارها | 180 |
| المبحث الخامس: مشاعر الكون في عيون العارفين | 182 |
| المبحث السادس: مشاعر الكون في ضوء العلم المعاصر | 191 |
| المبحث السابع: الآثار الإيمانية والتربوية للإيمان بمشاعر الكون | 196 |
| المبحث الثامن: رحلة في وجدان الكون القسم التفاعلي | 198 |
| خاتمة فصل مشاعر الكون | 203 |
في خضم الصمت الكوني المهيب، تنبض حياة خفية وتختلج مشاعر عميقة قد لا يلحظها الإنسان المغترب عن ذاته وعن محيطه. تلك المشاعر التي يكشف عنها القرآن الكريم بأسلوب لا يدع مجالاً للشك في أن الكون ليس مجرد آلة صمّاء تؤدي وظائفها بشكل ميكانيكي، بل هو كائن حي نابض بالمشاعر والأحاسيس، يفرح ويحزن، ويبكي ويضحك، ويغضب ويرضى، ويخاف ويطمئن.
(أكوان الله - نور الدين أبو لحية)
(الكلمة العاشرة - رسائل النور ص 120)
إن اكتشاف مشاعر الكون وانفعالاته يفتح أمامنا آفاقاً لعلاقة جديدة مع محيطنا، علاقة قائمة على التعاطف والاحترام والتواصل الروحي، بدل التسخير الأعمى الذي لا يراعي حرمة الحياة في كل ذرة من ذرات هذا الوجود.
إن استعانتنا بإشاراتٌ علميةٌ معاصرة تُعين على توسيع الأفق دون ادّعاءٍ لبرهنة الغيب بأدوات المختبر. ولأمانة العرض سنُميّز بين ثلاثة مستويات: نصٌّ قرآنيٌّ وحديثيٌّ يُؤخذ بظاهره مع تفويض الكيف. وفهم: استنباطٌ إيمانيٌّ وروحيّ، وإشارة من معطى علميٌّ كونيٌّ حديث يُذكر للإضاءة لا للإلزام. لسنا نزعم تماثُل “مشاعر” المخلوقات مع المشاعر البشرية، بل نُثبت ما أثبته الوحي من إدراكٍ وخشيةٍ وتسبيحٍ لكلّ مخلوق على قدره.
بهذه البوصلة نمضي: من الأساس المعرفي، إلى مشاهد الحزن والخشية والفرح، إلى شهادات العارفين، ثم الإشارات العلمية المعاصرة، فالآثار الإيمانية والتربوية والتطبيقات العملية.
في صباح هادئ، جلستُ في حديقةٍ أتأمل قطرات الندى على أوراق الشجر، وكيف تلألأت تحت أشعة الشمس الأولى. كانت الأرض تتنفس برطوبتها، والأشجار تهمس بأوراقها، والطيور تغرد بألحان متباينة. شعرتُ للحظة أنني أشهد عالماً متكاملاً من المشاعر تنبض في كل ما حولي... لكن هل يمكننا حقاً أن نتحدث عن "مشاعر" الكون؟ وما طبيعة هذه المشاعر؟
إن الحديث عن مشاعر الكون وانفعالاته يقودنا إلى تساؤل عميق حول طبيعة المشاعر ذاتها. فالمشاعر في المفهوم الإنساني المعتاد هي حالات وجدانية مرتبطة بالوعي والإدراك، تتضمن استجابات نفسية وفيزيولوجية لمؤثرات داخلية أو خارجية. لكن عندما نتحدث عن مشاعر السماء والأرض والجبال والبحار، فإننا نوسع دائرة هذا المفهوم لتشمل استجابات ذات طبيعة مختلفة.
المشاعر مراتب، فمشاعر الإنسان أعلاها، والمشاعر الوجدانية عند الإنسان هي روح الحياة ومن لا مشاعر له لا حياة له. ثم مشاعر الحيوان، ثم مشاعر النبات، ثم مشاعر الجماد. ولكل نوع من هذه المخلوقات إدراك يليق به وشعور يخصه، وإن خفي علينا كيفيته.
ويمكننا أن نعرِّف المشاعر الكونية بأنها: استجابات انفعالية تصدر من الكائنات والمخلوقات المختلفة - بما فيها الجمادات - نتيجة لتفاعلها مع المؤثرات المختلفة، وتعكس نوعاً من الوعي والإدراك يتناسب مع طبيعة كل مخلوق.
هذه الاستجابات تتجلى في صور مختلفة، منها ما يمكن إدراكه بالحواس المادية، ومنها ما لا يُدرك إلا بالبصيرة وكشف الحجب. قد يستغرب البعض هذا المفهوم، لكن القرآن الكريم زاخر بالإشارات إلى مشاعر وانفعالات الكون، كما في قوله تعالى:
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾
[الدخان: 29]
﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾
[مريم: 90]
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾
[الحشر: 21]
(الرازي، فخر الدين. مفاتيح الغيب)
على ضفاف نهر، جلستُ مرة أتأمل تدفق الماء بين الصخور. كان النهر يجري بهدوء حيناً، ويصخب حيناً آخر عندما يصطدم بالصخور. وسألت نفسي: هل ما أشعر به من سكينة أو اضطراب عندما أرى النهر هو انعكاس لمشاعر النهر ذاته؟ وهل يمكن للنهر أن يشعر كما أشعر؟
ثمة فروق جوهرية بين المشاعر الإنسانية ومشاعر الكائنات الأخرى، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
(موقع الشيخ ابن باز)
رغم هذه الفروق، تبقى هناك قواسم مشتركة بين المشاعر الإنسانية ومشاعر الكائنات الأخرى، أبرزها:
وكثيراً ما تتجلى لنا هذه القواسم المشتركة في لحظات صفاء روحي خاصة: "في لحظات الصفاء يتكشف السر، وترى في كل ذرة قلباً ينبض، وتسمع في كل ورقة نداءً، وتلمس في كل نسمة يداً تمتد إليك".
في ليلة عاصفة، كنت وحيداً على شاطئ البحر. الريح تعصف بقوة، والأمواج تتلاطم بعنف، والرعد يقصف في السماء. كان المشهد مهيباً ومخيفاً، لكنني شعرت أن هناك نوعاً من العزف المنسجم في تلك الفوضى الظاهرة. وتساءلت: هل تتنوع مشاعر الكون كما تتنوع مشاعرنا؟ وكيف يمكن تصنيفها؟
يمكن تصنيف المشاعر الكونية وفق عدة اعتبارات، منها:
مشاعر الحزن والألم: وتتجلى في مظاهر مثل بكاء السماء والأرض: كما في قوله تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ﴾ [الدخان: 29]، وفي غيظ جهنم وزفيرها، كما في قوله: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: 7-8].
جسّد القرآن الكريم مفهوماً عميقاً لوعي الكون ومشاعره من خلال آيات تُصور الكون ككائن حيّ قادر على الشعور. يكشف - وفقاً لتفسير الطبري - أن "المؤمن إذا مات بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً" حيث تبكي الأرض على أماكن صلاته، وتبكي السماء على الباب الذي كان يصعد منه عمله الصالح. ويتجلى هذا الوعي أيضاً في وصف جهنم التي ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ [الملك: 8]، حيث فسّر الطبري كلمة "تميز" بأنها "تتفرّق وتتقطع من الغيظ على أهلها".
هذه النصوص تُشير إلى أن الكون ليس مجرد مادة صماء، بل كيان واعٍ يشعر بالحزن على فقدان الصالحين ويغتاظ من المفسدين. حيث تبكي السماء والأرض، ولكن ليس بكاؤهما كبكائنا نحن بني آدم، فبكاؤهما أعمق وأصدق، إنه بكاء الوجود على فقدان من كان يعمرهما بالذكر والتسبيح. تبكي السماء على من كان يملأ أرجاءها بالتكبير والتهليل. إنها تبكي بلغة لا نفقهها نحن الذين حجبتنا غفلتنا عن فهم أنين الحجارة وتسبيح الأشجار.
والأرض تهتز حين يفارقها العابد الذي كان يعمرها بالسجود والركوع، فتفقد إضاءتها التي كانت تستمدها من نور المؤمن، وتعود إلى ظلمتها الأولى، كأنها تخلع عنها ثوب النور وترتدي أكفان الوحشة.
وفي أعماق الجحيم البعيدة، تتأجج نيران الغضب في قلب جهنم، تتغيظ وتتميز من الغيظ حين ترى الكافرين في غفلتهم. إنها لا تصبر على انتظارهم، بل تشتاق إليهم اشتياق الثائر المنتقم، تسأل ربها: "هل من مزيد؟" ليس لأنها تريد أن تمتلئ، بل لأن غيظها لا يهدأ، وحنقها لا يسكن إلا بأن تضم بين أحضانها الملتهبة كل من كفر بالله وأعرض عن آياته.
إن هذا المفهوم القرآني يُعمّق فهمنا لعلاقة الإنسان بالكون، حيث تتأثر عناصر الكون بأعمال البشر وأخلاقهم. وبالتالي، فإن الكون يُشارك الإنسان مشاعره، فيحزن لحزنه ويفرح لطاعته، مما يُؤكد الترابط الوثيق بين الخلق والخالق في منظومة كونية متكاملة.
مشاعر الخوف والخشوع والخشية: وتتجلى في مظاهر مثل خشوع الجبال وتصدعها: كما في قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21].
تصدعت الجبال الشامخات من شدة التأثر بعظمة القرآن، لا بقوة مادية خارجية، بل بانفعال روحي عميق يجعل كل ذرة في كيانها ترتجف هيبة وإجلالاً أمام كلام الله. تصدعت الجبال الشامخات من خشية الله، لا بقوة الزلازل ولا بجبروت البراكين، بل بمجرد التفكير في عظمة الخالق. تتفتت صخوره الصلدة أمام كلمات الرحمن، كأن كل حجر فيه يدرك أنه في حضرة الملك الديان. هذه الجبال التي نراها راسخة ثابتة، تعيش في الحقيقة حالة من الخشوع المستمر، ترتجف مهابة وإجلالاً، وكأن كل ذرة فيها تسبح بحمد ربها في خوف وخضوع.
والأرض كلها تقف في رهبة أمام خالقها، تدرك بكل جزيء فيها أنها مخلوقة، محتاجة إلى من يمسكها أن تزول. ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (فاطر: 41). تخاف أن تقصر في أداء رسالتها، أن تعصي أمر ربها الذي سخرها لخدمة عباده.
حتى النجوم في علياء السماء تسير في أفلاكها بخشية وحذر، لا تجرؤ على الخروج عن مداراتها المحددة، خوفاً من غضب من نظم هذا الكون البديع. ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس: 40).
و تنحني الأشجار العملاقة في خشوع، تسجد بأغصانها وأوراقها، وكأن كل خلية فيها تدرك أنها في حضرة مالك الملك، فتهتز أوراقها تسبيحاً وتتمايل جذوعها خشوعاً. حتى الظلال الصامتة تنحني شرقاً وغرباً في سجدات متتالية، تعبر عن خضوعها التام لخالقها، بينما يدوي صوت الرعد في السماء كأنه تسبيح جماعي يشترك فيه مع الملائكة المقربين.
إنها سيمفونية كونية من الخشوع والتعظيم، حيث تشارك كل ذرة في الوجود في هذا الانفعال الروحي العميق، معبرة عن إدراكها لعظمة الخالق وجلال أسمائه وصفاته. في هذا المشهد المهيب، يبدو الكون كله وكأنه مسجد واحد كبير، تصلي فيه جميع المخلوقات صلاة صامتة عميقة، مليئة بالخشية والمحبة والتعظيم لرب العالمين.
الخشية والشفقة التي نسبها القرآن للجبال والسماوات والأرض تدل على أنها ذوات مدركة، تعي ما يعرض عليها، وتقدر عواقب الأمور، وتختار ما ينفعها.
(تفسير الطبري)
ج. مشاعر الإباء والإشفاق: أشفقت السماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة العظيمة التي عُرضت عليها، فقالت في حكمة عميقة وتواضع جليل: "لا طاقة لنا بها يا رب"، ليس عجزاً منها ولا جبناً، بل إدراكاً حكيماً لعظم هذه المسؤولية وثقل التبعة التي تحملها.
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾
[الأحزاب: 72]
يكشف عن نوع فريد من المشاعر الكونية، مشاعر الخوف الحكيم من التقصير في أداء الواجب المقدس. هذه الكائنات العظيمة لم تخف من الله ذاته، بل خافت أن تقصر في حق الأمانة، أن تخون الثقة، أن تعجز عن الوفاء بما يُطلب منها على الوجه الأكمل. إنه خوف المحب الذي يعرف قدر حبيبه فيخشى أن يخيب ظنه، خوف العبد الصالح الذي يدرك عظمة سيده فيخاف أن يقصر في خدمته. في هذا الإشفاق الكوني درس عميق في التواضع والحكمة، حيث تعلمنا السماوات والأرض والجبال أن الحكمة الحقة تكمن في معرفة حدود القدرات والتواضع أمام عظمة التكليف الإلهي.
(تفسير الطبري)
د. مشاعر الفرح والسرور: وتتجلى في مظاهر مثل فرح الأرض بنزول المطر: كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [فصلت: 39]، وفي فرح الجنة بأهلها، كما جاء في الحديث: "إن الجنة لتفرح بقدوم المؤمن، وإن أشجارها لتستبشر بقدومه". (رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (7/373)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (1841)).
﴿اهْتَزَّتْ﴾ كأن حركة الحياة قد دبّت فيها، وكأنّ الفرح والبشر قد عمّها، وهذا الكلام ليس من قبيل التشبيه، ولكنه حقيقة من حقائق الوجود، فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء وأعطاه حياته ونطقه، لكن مداركنا لا تستطيع إدراك ذلك، قال سبحانه: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾.
ففي قوله تعالى "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت" نرى مشهداً من أروع مشاهد الفرح الكوني، حيث تتحول الأرض من حالة الخشوع والسكون إلى حالة من الابتهاج والحيوية المتدفقة. إن اهتزازها ليس مجرد حركة فيزيائية، بل تعبير صادق عن فرحة عارمة تعم كل ذرة فيها، كأن روح الحياة قد دبت في عروقها من جديد، فتخضر وتزهر وتثمر في احتفالية كونية بديعة.
حتى الجنة نفسها تفرح بقدوم المؤمن، وتستبشر أشجارها بوصوله، في مشهد يذكرنا بفرح الوالدة بعودة ولدها الغائب، أو فرح الحبيب بلقاء محبوبه بعد طول انتظار. هذا الفرح الكوني ليس تشبيهاً أو مجازاً، بل حقيقة من حقائق الوجود التي أخبرنا الله عنها، فكل شيء في هذا الكون يسبح بحمده ويعبر عن مشاعره، لكن مداركنا المحدودة لا تستطيع إدراك هذه اللغة الكونية العجيبة.
ه. مشاعر الغضب والسخط: وتتجلى في مظاهر مثل غضب السماوات والأرض على المشركين كما في قوله تعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 90-91].
تغلي السماوات غضباً وسخطاً حين تسمع الكلمة الشنيعة التي تنسب إلى الله ما لا يليق بجلاله وعظمته، فتكاد تتفطر وتتشقق من هول ما سمعت من افتراء وكذب على رب العالمين. نشهد مشهداً مهيباً من مشاهد الغضب الكوني، حيث تنتفض السماوات والأرض والجبال في ثورة عارمة ضد هذا الإفك المبين. إن غضبها ليس غضب الحقد أو الانتقام، بل غضب الغيرة على حرمات الله، الأرض تكاد تنشق من تحت أقدام من يتفوه بهذا الباطل، والجبال الراسيات تهتز وتميل للسقوط، كأنها لا تطيق أن تحمل على ظهرها من يجرؤ على نسبة النقص إلى الكامل المطلق.
هذا الغضب الكوني تعبير صادق عن إجلال الخلق لخالقهم وتنزيههم إياه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، فالكون كله ينطق بوحدانية الله ويشهد بتنزيهه عن الشريك والند والولد.
أ. مشاعر كونية شاملة: كما في قوله: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: 50].
ب. مشاعر كونية محلية: وهي التي تختص بمخلوق معين أو مكان محدد، كحنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكتسبيح الحصى في كفه الشريفة. بكاء الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أعجب ما روته السنة الصحيحة عن مشاعر الجمادات. وهو يدل على أن لهذه المخلوقات إدراكاً وشعوراً قد لا نفهم كنهه، لكننا نؤمن بحقيقته.
أ. مشاعر استجابة للأفعال الإنسانية: وهي المشاعر التي تظهر كرد فعل على سلوكيات الإنسان، مثل بكاء السماء والأرض على المؤمن، وفرح الأرض بالساجد عليها، وشكوى الطرق إلى الله من مجالس المعصية عليها.
(صحيح الجامع)
ب. مشاعر مستقلة عن الإنسان: وهي التي تظهر استجابة لأمر الله مباشرة، أو في علاقة المخلوقات بربها، مثل تسبيح الرعد بحمد الله، وسجود النجوم والشجر.
(تيسير الكريم الرحمن - السعدي)
هذه التصنيفات ليست حصرية أو نهائية، بل هي محاولة لتنظيم فهمنا لمشاعر الكون وانفعالاته. ولعل من أجمل ما قيل في وصف المشاعر الكونية:
تنبه أيها الغافل! فالكون من حولك ليس صامتاً ولا ميتاً، بل هو يضج بالتسبيح، ويتموج بالمشاعر، ويتأوه بالعبودية. الشمس تنوح عند غروبها، والقمر يبتسم عند اكتماله، والنجوم ترتعد من خشية الله، والأرض تتنهد تحت أقدام العصاة، وتتنسم عطر المطيعين. فإذا كنت لا تشعر بذلك، فاعلم أن القصور فيك، وأن الحجاب أمامك، فاسع لرفعه بمجاهدة النفس، وتزكية القلب، وإدامة الذكر، عسى أن تُفتح بصيرتك، فترى مشاعر الكون كما هي.
الكون من حولك ليس صامتاً ولا ميتاً، بل هو يضج بالتسبيح، ويتموج بالمشاعر، ويتأوه بالعبودية. الشمس تنوح عند غروبها، والقمر يبتسم عند اكتماله، والنجوم ترتعد من خشية الله، والأرض تتنهد تحت أقدام العصاة، وتتنسم عطر المطيعين.
من أبرز مشاعر الكون التي يكشف عنها القرآن الكريم تلك العلاقة الوجدانية بين الكون والإنسان، والتي تتجلى في ظاهرة غريبة ومدهشة هي بكاء السماء والأرض كما قال تعالى:
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾
[الدخان: 29]
هذه الآية الكريمة التي تتحدث عن هلاك فرعون وقومه، تخبرنا أن السماء والأرض لم تبكِ عليهم عند هلاكهم، مما يعني بمفهوم المخالفة أن السماء والأرض تبكيان على بعض الناس عند موتهم، وهم المؤمنون الصالحون الذين كانوا يعمرون الأرض بطاعة الله وعبادته.
(شعب الإيمان للبيهقي)
(رواه الترمذي، وحسنه الألباني)
من نقطة نور عظيمة وسط ظلام دامس، تنبثق موجات ضوئية دائرية بلون ذهبي أزرق، تتداخل كأنها أولى نبضات قلب الكون الوليد. هذه التموجات تحمل في طياتها أول أنفاس الوجود، وأول صوت حي يسري في أرجاء الفضاء، معلنة بداية قصة الخلق العظيم.
وقال مجاهد: "وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟" (تفسير ابن كثير).
وقد جاء العلم الحديث ليؤكد هذه الحقيقة القرآنية بطريقة مدهشة. فقد اكتشف البروفيسور مارك ويتل من جامعة فيرجينيا، وهو أحد علماء الفضاء، أن الكون عندما كان في مراحله الأولى (في مرحلة الغاز والغبار والحرارة العالية) أصدر موجات صوتية. وقد ساعد على انتشار هذه الأمواج وجود الغاز الكثيف الذي يملأ الكون والذي عمل كوسط مناسب لانتشار هذه الأصوات. هذا الاكتشاف هو نتيجة لدراسة الإشعاع الميكرويفي لخلفية الكون في مراحله الأولى بعد الانفجار الكبير. وقد نشر موقع الـ BBC هذا الخبر تحت عنوان "بكاء الكون عند الولادة" (Birth cry' of the cosmos heard).
هناك ظواهر كونية تم تفسيرها علميًا تتعلق بالإشارات والموجات في الفضاء، منها:
بينما تُظهر هذه الظواهر أن الكون مليء بالإشارات والموجات، إلا أن تفسيرها كدليل على أن "الكون كائن حي نابض بالحياة" يظل في نطاق التأملات الفلسفية أو الدينية، وليس الاستنتاجات العلمية المبنية على أدلة تجريبية.
يستعمل بعض التقارير تعبيرًا تصويريًا مثل «بكاء الكون» لتقريب رهبة البدايات إلى الذهن. أمّا الوصف العلمي الدقيق فهو الاهتزازات الصوتية الباريونية (BAO): موجاتُ ضغط في البلازما الأولى تركت أثرها في الخلفية الكونية الميكروية وتوزّع المجرّات. لا تعارض هنا؛ فالعلم يصف الكيفية، والإيمان يضيء المعنى.
الجواب العميق عن هذا السؤال يكمن في العلاقة الوثيقة بين الإنسان والكون. فالمؤمن الذي يعيش حياته في تناغم مع الكون، ويعمر الأرض بالعبادة والطاعة، ويرفع إلى السماء الكلم الطيب والعمل الصالح، يصبح جزءاً من نسيج هذا الكون، ويربط علاقة وجدانية مع السماء والأرض. أما فرعون وقومه، فقد قطعوا هذه العلاقة بتكبرهم وطغيانهم، ولم يكن لهم آثار صالحة في الأرض، ولا أعمال طيبة تصعد إلى السماء، فلم تبك عليهم السماء والأرض عند هلاكهم.
(تفسير القرطبي)
ومما يدهش حقاً ما ذكره عالم المصريات جيمس هنري برستيد في كتابه "تطور الدين والفكر في مصر القديمة" عن شعائر جنائز المصريين القدامى عند موت الملوك، إذ كان المحزونون على الملك يقولون: "السماء تبكي من أجلك والأرض تتزلزل من أجلك". فجاءت آيات القرآن الكريم لترد على هذه المزاعم وتؤكد أن السماء والأرض لم تبكيا على فرعون وقومه: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ... فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾.
المؤمن ليس غريباً في هذا الكون، بل هو محاط بكائنات حية واعية تشاركه مشاعره وأحاسيسه.
(المعجم الكبير للطبراني)
هذه العلاقة الوثيقة بين المؤمن والكون لا تقتصر على المشاعر فقط، بل تمتد إلى التعاون والتكافل. فقد روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجرة فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود". وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن الجمادات تدرك وتتكلم، وأنها تعرف المؤمن من الكافر.
وفي المقابل، يعيش الكافر والغافل في انفصال تام عن محيطه وعن الكائنات من حوله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مرت به جنازة: "مستريح ومستراح منه". قالوا: "يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟" قال: "العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب" (صحيح البخاري). وهذا الحديث صريح في تأثر الكون بمن يعيش فيه، وأن الإنسان الصالح محبوب من كل ذرات الكون، أما الفاجر فهو يؤذي كل ما حوله، ويستريح الجميع من وجوده.
من المشاهد المؤثرة التي تكشف عن العلاقة الوجدانية بين الكون والإنسان، مشهد حزن الكون وبكائه على موت المؤمن.
(سنن الترمذي)
(شعب الإيمان للبيهقي)
أي تحزن وتتأسف عليه، لمعرفتها بمنزلته ومكانته عند الله، ولأنه كان يعمرها بذكر الله وعبادته وهذا الحزن والبكاء يدل على مدى التعاطف والتواصل الروحي بين الإنسان المؤمن والكون من حوله.
من مشاعر الكون العميقة التي يكشف عنها القرآن الكريم، غيظ جهنم وزفيرها:
﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾
[الفرقان: 12]
تصور هذه الآية مشهداً مرعباً من مشاهد يوم القيامة، حيث ترى جهنم الكفار من مكان بعيد، فتغتاظ منهم وتزفر زفيراً شديداً يسمعه الكفار فيزدادون رعباً وفزعاً. والتغيظ هو شدة الغضب، والزفير هو إخراج النفس بشدة من شدة الغيظ والغضب. وهذا يدل على أن جهنم كائن حي واعٍ، يرى ويسمع ويشعر، ويغضب ويغتاظ ويزفر.
وقد تأتي مشاعر النار بطريقة صريحة كما في قوله تعالى: ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ [الملك: 8]. فهذه الآية تخبر أن جهنم تكاد تتقطع وتتمزق من شدة غيظها على الكفار.
(صحيح البخاري)
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن النار مخلوق حي عاقل، لها إدراك، وهي تشكو إلى ربها.
تبدو جهنم ككائن غاضب ينتظر من عصى الله، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾.
من أكثر المشاهد الكونية هولاً ما يصوره القرآن من تفطر السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال هداً، بسبب قول المشركين أن لله ولداً: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 90-91].
هذه الدعوى المنكرة الشنيعة لم تواجه بالاستنكار والتشنيع فحسب، بل إن الكون كله يكاد ينهار ويتحطم لهولها، وكأنما هي قارعة تهد أركان الوجود كله، وتزلزل الملأ الأعلى كله.
(تفسير ابن كثير)
﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾
[الحشر: 21]
يقول الإمام الشوكاني في تفسير هذه الآية: "أي: من شأنه وعظمته... أنه لو أنزل على جبل من الجبال الكائنة في الأرض لرأيته مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة وضخامة الجرم خاشعاً متصدعاً أي: متشققاً من خشية الله سبحانه..." (فتح القدير). ويقول نور الدين أبو لحية: "في هذه الآية إشارة إلى أن الجبل يتأثر سماعا وقلبا بكلام الله العظيم ولو كان جمادا صرفا لما تصدع من خشية الله".
وقد أخبر القرآن الكريم عن مشاعر الخشية التي تجعل الحجارة تهبط أو تتفجر أو تتشقق: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه﴾ (البقرة: 74).
وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تؤكد وعي الجبال والحجارة ومشاعرها، منها:
من المشاهد المؤثرة التي يصورها القرآن الكريم، مشهد هبوط الحجارة من خشية الله: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾. تخبر هذه الآية الكريمة أن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، أي ينزل من أماكنه العالية إلى الأماكن المنخفضة خوفاً من الله وخشية منه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن من الحجارة لما يهبط من رأس الجبل من خشية الله." وقال مجاهد: "ما من صخرة تتدهور من رأس جبل إلا من خشية الله". وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ قال: "ما تدلى من الجبال فهو خشية الله، وما هبط منها فهو من خشية الله".
يقول الإمام القرطبي: "هذا خبر عن بعض الحجارة أنها تقع وتنزل من رأس الجبل من خشية الله تعالى. وهذا ليس بمنكر، لأن الله تعالى قد وصف الجمادات بالعقل والطاعة والسجود... والمعنى في قوله: ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ أي يهبط لخشية الله، أي لإجلال الله وتعظيمه". ويؤكد هذا المعنى ما ذكره ابن القيم من أن الجمادات أكثر انقياداً لله من الإنسان، فيقول: "وقد أخذ الله على جميع المخلوقات طاعته، وكلها مطيعة له إلا من عصاه من الجن والإنس... وقد وصف سبحانه الحجارة بالخشية... فإذا كانت الحجارة تخشى الله، فكيف لا تخشاه القلوب؟".
(رواه الترمذي برقم (828) وابن ماجه والحاكم)
هذا الحديث العظيم يكشف عن حقيقة كونية مذهلة: أن الكون كله يتجاوب مع المسلم في عبادته، وأن الحجر والشجر والمدر تشاركه شعائره وتردد صدى تلبيته.
التلبية شعار الحج والعمرة، وهي قول المسلم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...". وهي إجابة لنداء إبراهيم عليه السلام. ومعنى "لبيك": أي إجابة لك بعد إجابة.
يخبرنا الحديث الشريف أن المسلم حين يلبي، فإن كل ما حوله من الكائنات - الحجر والشجر والمدر - تشاركه هذه التلبية، وتردد صداها معه، "عن يمينه وعن شماله". وهذه المشاركة الكونية تستمر وتمتد "حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا".
تدور مئات القلوب الخاشعة حول الكعبة، وقد ارتدى الحجاج لباس الإحرام الأبيض، رافعين أصواتهم بـ"لبيك اللهم لبيك". وكأن الكعبة والمخلوقات من حولها تشاركهم التلبية بروحانية تهز أرجاء الوجود.
عندما يرتفع صوت المؤذن في خضم صمت الفجر الهادئ... يرتفع صوت المؤذن عبر الأثير حاملاً كلمات التوحيد والتكبير. لكن هذا الصوت لا يخترق فقط آذان البشر، بل يتردد في أعماق الكون كله، محدثاً صدى عجيباً في نفوس الجماد والنبات والحيوان، بل وحتى في عالم الجن الخفي.
المؤذن يشهد له يوم القيامة كل شيء سمع صوته: فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "...فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة". وفي رواية ابن خزيمة: "لا يسمع صوته شجر ولا مدر ولا حجر، ولا جن ولا إنس، إلا شهد له". وأخرج الإمام أحمد: "يغفر للمؤذن منتهى أذانه، ويستغفر له كل رطب ويابس سمعه".
لا تقتصر علاقة الكون بالمؤذن على الشهادة فقط، بل تتعداها إلى المشاركة الوجدانية والتصديق. ففي الحديث الشريف: "ويصدقه من سمعه من رطب ويابس". ومن أعجب مظاهر هذه المشاركة الكونية أن الكائنات تستغفر للمؤذن.
وفي يوم القيامة، عندما تحضر جميع الخلائق للحساب، ستنطق كل هذه الشهود التي سمعت صوت المؤذن. ستشهد الحجارة والأتربة، ستشهد الأشجار والنباتات، ستشهد الجن والإنس، وحتى الريح التي حملت صوت الأذان ستكون شاهدة.
من المشاهد البديعة التي يرسمها القرآن الكريم لمشاعر الكون، مشهد فرح الأرض وابتهاجها بنزول المطر: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ...﴾.
تصور هذه الآية الكريمة الأرض في حالتين: حالة الخشوع، أي اليباس والجدب، وحالة الفرح والابتهاج بعد نزول المطر، حيث تهتز وتربو. يقول الزمخشري في الكشاف: "الخشوع: التذلل والتصاغر، فاستُعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها...". وهذه الآية تدلنا على أن الأرض كائن حي، له وعي وإدراك وشعور، يخشع ويتذلل عند الجدب واليباس، ويهتز ويربو فرحاً وابتهاجاً عند نزول المطر.
وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في آيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾. يقول ابن عاشور: "وقد استعير الاهتزاز للتحرك الحاصل في الأرض...". ويؤكد العلم الحديث هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم، فقد أثبتت الدراسات العلمية أن التربة تتمدد وتنتفخ فعلاً عندما تتشرب الماء.
من المظاهر العجيبة للوعي الكوني ما أشارت إليه النصوص من تواصل الكائنات فيما بينها وتحاورها ومذاكرتها.
هذه النصوص تدل على أن الكائنات في هذا الكون تتواصل فيما بينها وتتحاور، وأنها تعي ما يجري حولها، وتدرك من يمر بها من الناس. قال بديع الزمان النورسي: (فالكونُ بجميع عوالمه حيّ ومشع مضئ بذلك التجلي...). ويقول ابن القيم: "وفي هذه الآثار دليل على أن الجمادات تعقل وتدرك وتفهم وتتكلم...".
(صحيح الجامع)
في آخر الزمان، حين يبلغ الظلم مداه ويستشري الفساد في الأرض، ينتفض الكون كله ثورة عارمة ضد الظالمين المعتدين، فتتحول حتى الجمادات الصامتة إلى شهود عدل وأنصار للحق المهضوم. الحجر الذي كان يرى ولا ينطق، والشجر الذي كان يسمع ولا يتكلم، سيصبحان لساناً ناطقاً بالحق.
لطالما تمتع أرباب القلوب المستنيرة بحساسية خاصة تجاه مشاعر الكون وانفعالاته من حولهم. هذه العين المفتوحة على عالم الغيب رأت ما لا نراه، وسمعت ما لا نسمعه، وشعرت بما لا نشعر به. في أعماق الليالي المظلمة، وفي خلوات الأسحار، تكشّفت لهم حقائق الوجود، حيث أدركوا أن للحجر روحاً، وللشجر قلباً، وللسماء دمعاً، وللأرض خفقاناً.
في كتبه الفلسفية والروحانية لم يستخدم الإمام أبو حامد الغزالي مصطلح «الوعى الكوني» بالصيغة الحديثة، لكنه بيَّن أن الكون ليس جماداً منفصلاً عن الخالق بل «نور من أنوار القدرة الأزلية وأثر من آثارها». يرى الغزالي أن العقل أو النفس الإنسانية «عيّنة من نور الله»، ولذلك فهي قادرة على إدراك الحقائق الباطنة التي لا تدركها الحواس. يرى الغزالي أن الكون كله يسبّح الله، ليس بلسان الحال فحسب بل بوجوده كله.
إشارات الوعي الكوني في فكر الغزالي:
أما جلال الدين الرومي، فقد كان له مع الطبيعة قصة عشق خالدة. يرى الرومي أن الكون حيٌّ بذكر الله؛ كلُّ ذرةٍ فيه تُسَبِّح وتنجذب إلى مركز المحبة الإلهية. يتحدث الرومي: "فكل ذرة من ذرات الوجود ترقص طربًا بمحبة الله، وتهتز فرحًا لذكره."
يؤكد الرومي أن التسبيح عامٌّ يشمل العاقلَ وغيرَ العاقل. يفتتح الرومي «المثنوي» بصوت الناي رمزًا للكيان المخلوع عن موطنه، يذكّر بالسَّمْت الذي يتجاوب معه الكون.
كان الإمام أحمد بن عطاء الله السكندري، الصوفي العارف ومؤلف "الحكم العطائية"، من أعمق المفكرين المسلمين الذين تناولوا مسألة وعي الكون وحيويته. فقد رأى الكون كياناً حياً نابضاً بالروح الإلهية، متفاعلاً مع خالقه في كل لحظة. يقول: «الكونُ كلُّه ظُلْمَةٌ، وإنَّما أنارَهُ ظهورُ الحقِّ فيه».
يقول ابن عطاء الله في حكمته الشهيرة: "الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار."
هذه الرؤية تكشف عن فهم عميق للطبيعة الحقيقية للوجود. فالكون عند ابن عطاء الله ليس مجرد مادة جامدة، بل هو مرآة عاكسة للنور الإلهي. ويؤكد هذا المعنى في حكمته العميقة: "كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء! كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي ظهر بكل شيء!...".
كان ابن عطاء الله السكندري يرى أن الكونَ كلَّه حيٌّ بتسبيحه، ناطقٌ بحاله، متوجهٌ إلى ربه. يقول: "إنما يستوحش العباد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء، فلو شهدوه في كل شيء لم يستوحشوا من شيء."
يدعو ابن عطاء الله إلى النظر للكون بعين البصيرة، فيقول في شرح حكمه أن تحرص على ألا تجعل الأكوان سجناً لك عن المكون، بل احرص على أن تجعل من الأكوان مرآة ترى من خلالها جمال الحق وآثار صفاته. ويرى أن الحق موجود مع كل موجود.
وهكذا يكشف ابن عطاء الله السكندري عن حقيقة الكون باعتباره كائناً حياً يتنفس بذكر الله. فسبحان من أظهر وجود الأشياء، وأخفى أسرار معانيها.
إن ما نقلته لكم من نصوص العارفين ليس مجرد تخيلات شعرية أو استعارات بلاغية، بل هي مشاهدات حقيقية عاشوها بقلوبهم المفتوحة على عوالم الغيب. وفي الكون أسرار لا يدركها إلا من كشف الله عن بصيرته الغطاء.
القلب كالمرآة، والمعاصي كالصدأ عليها. فكلما صقلت المرآة وجلوتها بالتقوى والذكر، انعكست فيها صور حقائق الأشياء. وكلما ازداد صقلها، ازداد انكشاف الحقائق فيها.
قول محمد بن واسع: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه". فمن لم يَر الله في كل شيء، لم يرَ شيئاً. ومن لم يسمع الله في كل صوت، لم يسمع شيئاً. فالعارف لا تعتريه غفلة، بل هو في يقظة دائمة. هذه اليقظة الدائمة تجعل العارف حساساً لكل همسة في الكون.
المستوى الثالث: فناء الأنانية: حين تذوب الأنا في بحر المحبة الإلهية، تنهار الحواجز بين الذات والكون، وتظهر المشاعر المشتركة بين الإنسان والكون.
ليس من الضروري أن نكون من كبار العارفين لنلمس شيئاً من مشاعر الكون. يمكننا أن نبدأ رحلتنا نحو هذا العالم العجيب بخطوات بسيطة:
في إحدى الحلقات التي رأيتها في رمضان عن رسالة من الماء، وقفتُ أتأمل تجربة الدكتور ماسارو إيموتو الشهيرة حول تأثير المشاعر والكلمات على بلورات الماء. كانت الصور المعروضة مذهلة... تساءلتُ: هل يمكن أن يكون هذا الماء "يشعر" بطريقة ما؟ العلم المعاصر، رغم منهجيته المادية، بدأ يقترب – وإن من زوايا مختلفة – من بعض المفاهيم التي طرحها القرآن الكريم.
تشهد الدراسات العلمية الحديثة تحولاً جذرياً في فهمنا للنباتات. يقول البروفيسور ستيفانو مانكوسو: "لقد أظهرت تجاربنا أن النباتات تمتلك نظاماً عصبياً موزعاً، يتيح لها الاستجابة للمؤثرات بدقة مذهلة". من الأمثلة المذهلة: نباتات تستطيع تمييز أصوات اليرقات، وأشجار تتواصل مع بعضها عبر شبكة من الفطريات. هذه الاكتشافات تقترب مما أخبرنا به القرآن: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾.
تُعتبر الدكتورة مونيكا غاليانو من رواد البحث في مجال الذكاء النباتي. تُعرّف غاليانو الذكاء النباتي بأنه قدرة النباتات على معالجة المعلومات واتخاذ القرارات التكيفية. وتؤكد أن "النباتات كائنات ذكية، تمتلك حكمة عميقة—إذا تعلمنا كيف نستمع إليها".
في مجال علم الأعصاب، طور العالم جوليو تونوني نظرية المعلومات المتكاملة (IIT)، التي تقترح أن الوعي قد يكون خاصية أساسية في الكون. "الوعي ليس حكراً على الدماغ البشري،" يقول تونوني. هذه النظرية تفتح الباب لفكرة أن الوعي قد يوجد بدرجات متفاوتة في كل شيء.
دراسات الذكاء الجماعي تكشف كيف تظهر سلوكيات ذكية معقدة من تفاعلات بسيطة بين كائنات فردية. البروفيسور ديبورا غوردون توضح: "لا توجد نملة قائدة تعطي الأوامر...". هذه الظاهرة، المعروفة بـ "الذكاء الجماعي"، تقترب من المفهوم القرآني: ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم﴾.
تجارب الدكتور ماسارو إيموتو حول "ذاكرة الماء" أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية.
تجربة ماسارو إيموتو حول "تأثر بلورات الماء بالكلمات" لا تفي بالمعايير التجريبية (ضوابط كافية، تعمية، تحليل إحصائي، واستنساخ مستقل)، وتُصنَّف في الأوساط العلمية ضمن العلوم الزائفة. تَشَكُّل البلورات يتحدد في الأساس بعوامل فيزيائية: نقاء العيّنة، شوائب ونوى التبلور، معدل/تدرّج التبريد، الاهتزاز، ظروف الحاوية، وزاوية التصوير. وعليه، إن أُشير إليها هنا فبوصفها مادة ثقافية متداولة لا برهانًا علميًا على “مشاعر” الماء.
تجارب أخرى أيضا للوك مونتانييه (الحائز على نوبل): "ما وجدناه أن DNA يُحدث تغييرات بنيوية في الماء، وتبقى هذه التغييرات حتى بعد التخفيف...". ونوّهت إحدى الدراسات إلى أن الماء المخفف يحافظ على "بصمة" الرابط مع المذاب الأصلي.
بلورات الماء تتجاوب بشكل مذهل مع الكلمات، وكأنها تعكس طاقة المشاعر ذاتها. الإنسان في المنتصف يتأمل هذه الظاهرة بحيرة وتأمل، مما يفتح باب التساؤل: هل للماء وعيٌ ما أو ذاكرة خفية؟
(إنتاج الإشارات الكهرومغناطيسية بواسطة هياكل نانوية مائية مشتقة من تسلسلات الحمض النووي للبكتيريا 2009). هذه النتائج، وإن بقيت مثيرة للجدل، تثير تساؤلات عميقة.
يقول ماكس بلانك (Max Planck): "أعتبر الوعي أساسياً. أعتبر المادة مشتقة من الوعي...". جون ويلر قدم مفهوم "الكون التشاركي" (Participatory Universe)، حيث يرى أن الملاحظ ليس مجرد مراقب سلبي، بل يشارك فعليًا في تشكيل الواقع من خلال عملية الملاحظة.
رغم هذه الاكتشافات المثيرة، تظل هناك فجوة منهجية بين التصور القرآني لمشاعر الكون والمقاربة العلمية المعاصرة: 1. الحدود المنهجية. 2. المصطلحات والمفاهيم. 3. الغاية والمقصد.
يمكننا أن نرى في هذه الاكتشافات العلمية إشارات مثيرة تقترب من بعض ما أخبرنا به القرآن عن الكون الحي الواعي. ليس بالضرورة أن نبحث عن تطابق حرفي بين المعرفتين، بل عن تكامل يثري فهمنا للوجود.
(The Ultimate Quotable Einstein)
ربما تكون تلك الدهشة هي البداية الحقيقية للعلم والإيمان معاً.
الإيمان بأن الكون كائن حي واعٍ، له مشاعر وانفعالات، له آثار إيمانية وتربوية عظيمة في حياة المسلم، منها:
منذ سنوات، وفي أحد أيام الخريف، جلست تحت مظلة شجرة عتيقة أراقب تساقط أوراقها الصفراء... شعرت يومها بإحساس غريب، كأن بين الشجرة وبيني عاطفة غريبة. هذه التجربة الشخصية قد تكون مدخلاً للتفاعل مع مشاعر الكون.
في هذا التأمل العميق حول خشوع الصخور، تكشف لنا الدراسات الجيولوجية أسراراً مذهلة عن هذه الشاهدة الصامتة على تاريخ الأرض. أقدم الصخور المكتشفة على سطح الأرض يبلغ عمرها حوالي 4.28 مليار سنة... هذه الصخور التي نمسكها بأيدينا قد شهدت نشأة المحيطات، وظهور الحياة الأولى.
دعوني أشارككم بعض اللحظات الشخصية التي عشتها مع مشاعر الكون: الجبل الصامت، غضب البحر، نجوم الصحراء. قد لا نستطيع أن نفهم لغة الكون كاملة، أو أن ندرك مشاعره كما هي. لكن محاولة الإنصات والتأمل والتفاعل مع الكون من حولنا تفتح لنا آفاقاً جديدة من المعرفة والإيمان.
يقول أحد العارفين: "من عرف سر القرب من الله، عرف سر قرب المخلوقات منه".
وهكذا نطوي الصفحات الأخيرة من رحلتنا في عالم مشاعر الكون، تلك الرحلة التي أخذتنا بين آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونظرات العارفين، واكتشافات العلم الحديث. رحلة كشفت لنا أن هذا الكون ليس مجرد مادة صماء جامدة، بل هو كائن حي نابض بالمشاعر والأحاسيس.
لقد رأينا كيف تبكي السماء والأرض على المؤمن الصالح عند موته، وكيف تشارك الكائنات المسلم في تلبيته وعبادته، وكيف تخشع الجبال وتتصدع من خشية الله. وقد تجلى لنا أن العلاقة بين الإنسان والكون ليست علاقة سيطرة واستغلال، بل هي علاقة تعاطف وتواصل وتناغم روحي.
ولعل من أعظم الدروس التي نخرج بها من هذا الفصل هو أن الإنسان - رغم تكريم الله له - ليس وحده من يعي ويشعر في هذا الكون. إنه جزء من منظومة كونية حية واعية، كلها تسبح بحمد ربها وتخشع له. وهذا يدعونا إلى التواضع وإعادة النظر في علاقتنا مع محيطنا.
وفي ختام هذه الرحلة في عالم مشاعر الكون، نستذكر قول الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
فلنفتح قلوبنا وعقولنا لرؤية هذه الآيات، ولنصغ إلى همسات الكون ونبضاته، ولنشارك المخلوقات تسبيحها وعبادتها لله رب العالمين. ولنتذكر دائماً أننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة الإيمانية، بل نحن محاطون بكائنات حية واعية تشاركنا مشاعرنا وأحاسيسنا.
أختم بهذا الدعاء الجميل: "اللهم أرنا في الآفاق والأنفس من آياتك ما تزداد به بصائرنا نوراً وقلوبنا يقيناً. اللهم اجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم اجعلنا من الذين يفقهون تسبيح كل شيء، ويستمعون إلى نداء الفطرة في كل المخلوقات. اللهم ارزقنا الإحساس المرهف بمشاعر الكون من حولنا، وألهمنا الخشوع كما خشعت الجبال، والتسبيح كما سبحت الطير، والسجود كما سجد النجم والشجر. واجعلنا من الذين إذا ماتوا بكت عليهم السماء والأرض، وفرحت بلقائهم الجنة ونعيمها."
﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾
[الأنعام: 38]
والله أعلم وأحكم
شاركنا تأملاتك
عبد الله
منذ ساعةفصل رائع جداً، الربط بين المفاهيم القرآنية والعلم الحديث يفتح آفاقاً جديدة للتفكير. شكراً لكم.