🌐 www.universe-melodies.com

الفصل الرابع

سجود الكون وخشوعه

رحلة في معاني الخضوع والتسليم الكوني الشامل

مفهوم السجود الكوني

في رحاب الوجود الفسيح، وفي كل ذرة من ذراته المتناهية في الصغر، وفي كل مجرة من مجراته المتناهية في العظمة، يتجلى معنىً من أعمق معاني الإيمان: سجود الكون بأكمله لخالقه ومبدعه. يقول الله تعالى في محكم التنزيل:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾

الحج: 18

آية عظيمة تحمل في طياتها حقيقة كونية مذهلة: أن الكون بأكمله - جماداته ونباتاته وحيواناته، أرضه وسماواته، نجومه وكواكبه - كله ساجد لله، خاضع لأمره، منقاد لمشيئته، معترف بربوبيته، مسبح بحمده.

يلفت الإمام الغزالي أنظارنا إلى هذا المعنى قائلاً: "سجود الأشياء لله تعالى هو طاعتها له فيما سخرها له، وخضوعها لما أراد منها، وقيامها بما خلقها له".

فالأشياء كلها، عندما تقوم بوظائفها التي خلقت من أجلها، وتسير وفق النظام الذي وضعه الله لها، إنما هي في حالة سجود دائم لله تعالى.

وليس السجود الكوني مجرد مفهوم فلسفي أو تعبير مجازي، بل هو حقيقة وجودية يؤكدها القرآن الكريم في آيات عديدة. يقول تعالى:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾

الإسراء: 44

فكل شيء في هذا الكون يسبح بحمد الله، ولكن البشر -بحكم محدودية حواسهم وإدراكهم- لا يفقهون هذا التسبيح، ولا يدركون كنهه.

إن السجود الكوني يتجاوز البعد المادي المحسوس إلى بعد روحاني عميق. فالنجوم في أفلاكها، والأشجار في حفيفها، والجبال في شموخها، والأنهار في جريانها، والطيور في تغريدها، كلها تؤدي عبادة خاصة بها، وتقدم سجوداً فريداً يليق بطبيعتها، وتعلن بلسان حالها ومقالها: "سبحان الله وبحمده".

ولعل في تأمل هذا المفهوم العظيم دعوة للإنسان ليتناغم مع هذا السجود الكوني، وينسجم مع إيقاع الوجود المسبح، فيسجد لله سجوداً واعياً مختاراً، يحقق فيه غاية وجوده، ويؤدي فيه الأمانة التي حملها، ويستشعر فيه معنى العبودية الحق لله الواحد الأحد.

هكذا يصبح المؤمن المتأمل، وهو ساجد على الأرض، جزءاً من سيمفونية كونية عظيمة من السجود والتسبيح، تعزفها المخلوقات كلها، معلنة عبوديتها لله رب العالمين، مرددة بلسان الحال أو المقال: ﴿سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى﴾.

والسجود في اللغة يعني الخضوع والانحناء والانقياد. قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "سجد يدل على تطامن وذل، يقال: سجد، إذا تطامن وكل ما ذل فقد سجد." (ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة "سجد")

وفي الاصطلاح الشرعي، هو وضع الجبهة على الأرض تعبداً لله وتذللاً له. ويمثل السجود أعظم مظاهر الخضوع والتذلل لله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث النبوي الشريف:

"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء." (رواه مسلم)

أما السجود الكوني، فيعني خضوع الكون بأسره لله تعالى وامتثاله لأمره، كل بحسب طبيعته وهيئته.

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ۝ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾

النحل: 48-49

قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "يخبر الله تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها؛ جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة." (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم)

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾

الحج: 18

المبحث الأول: الأدلة القرآنية على سجود الكائنات

تتعدد الآيات القرآنية التي تتحدث عن سجود الكائنات لله تعالى، ومنها:

1. قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15]

قال الإمام القرطبي: "أي يسجد له من في السماوات من الملائكة طوعاً ومن في الأرض من المؤمنين طوعاً، والكفار كرهاً، فإنهم يسجدون لله بظلالهم وإن لم يسجدوا بجباههم." (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 9/303)

2. قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ [النحل: 48]

قال الإمام الطبري: "يقول تعالى ذكره: أو لم ير هؤلاء المشركون إلى ما خلق الله من شيء من شجر وجبال وغير ذلك يتفيأ ظلاله، يعني: يتميل ظله من مشرق إلى مغرب، وذلك أن الشمس تطلع فيكون الظل ممتداً نحو المغرب، ثم تدور الشمس فيدور الظل معها، ويتقلص من المغرب إلى المشرق." (الطبري، جامع البيان 17/293)

3. قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6]

قال مجاهد: "النجم ما نجم من الأرض، والشجر ما كان على ساق". وقال ابن عباس: "النجم: النبات الذي لا ساق له، والشجر: ما له ساق." [تفسير الطبري، 22/14]

4. قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: 41]

قال ابن القيم: "وهذا نص في أن كل مخلوق يعلم صلاته وتسبيحه، فهو عالم بذلك، عارف به، قاصد له." [ابن القيم، مفتاح دار السعادة]

سجود الشمس والقمر والنجوم

جاء في القرآن الكريم ذكر سجود الشمس والقمر والنجوم في آيات عديدة، ووردت أحاديث نبوية تبين كيفية سجودها.

روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر، تدري أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38]." (صحيح البخاري، 3199؛ صحيح مسلم 250)

قال الإمام النووي في شرح مسلم: "اتفق العلماء على تأويل هذا الحديث، واختلفوا في تأويله، فقيل: المراد بالسجود الانقياد لله تعالى، أي: هي مسخرة منقادة لمشيئته تعالى، وقيل: المراد سجود حقيقي يخلقه الله تعالى فيها." [شرح النووي على صحيح مسلم 3/18]

وذكر ابن الجوزي في زاد المسير أقوالاً في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾، منها:

"قال ابن عباس: النجم: ما نجم على وجه الأرض مما ليس له ساق، والشجر: ما كان له ساق."
"وقال قتادة: النجم: الكوكب، والشجر: معروف."
"وقال عطاء: النجم: ما انبسط على وجه الأرض، والشجر: ما قام على ساق."
ثم قال: "والسجود هنا خضوعهما لخالقهما فيما يراد بهما، فالكوكب: يطلع وينكسف ويسير، والنبات: ينبت ويهيج." (ابن الجوزي، زاد المسير)

وروى ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه قال في قوله تعالى: ﴿وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾ [الأعراف: 54]: "سجودها غروبها." (تفسير ابن أبي حاتم)

وقال عكرمة: "النجوم سخرت لثلاث: رجوماً للشياطين، وزينة للسماء، وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر." (القرطبي، الجامع لأحكام القرآن)

السجود العام للمخلوقات

تحت قبة السماء المزينة بالنجوم، تسجد الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والدواب والبشر معًا، خاضعين في سجود متناسق. وكأن الكون كله يؤدي صلاته الصامتة أمام جلال الله وعظمته.

المبحث الثاني: قصص الصحابة والسلف مع سجود المخلوقات الواعية لله

وردت عن السلف الصالح قصص وروايات عديدة تؤكد وعي المخلوقات وسجودها لله تعالى، منها:

1. قصة الحصى في يد النبي صلى الله عليه وسلم:

روى أبو ذر رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ حصيات فسبحن في يده، ثم وضعهن فسكتن، ثم أخذهن أبو بكر فسبحن في يده، ثم وضعهن فسكتن، ثم أخذهن عمر فسبحن في يده، ثم وضعهن فسكتن." [أخرجه البزار وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة]

2. قصة جذع النخلة الذي حن للنبي صلى الله عليه وسلم

روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجمعة إلى جذع، فلما وضع له المنبر، سمعنا للجذع مثل صوت العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه." وفي رواية أخرى: "فحن الجذع حنين الناقة، فنزل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن، وقال: لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة." [صحيح البخاري]

قال ابن حجر في الفتح: "وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه دلالة على أن الجماد قد يخلق الله فيه إدراكاً وتمييزاً." [فتح الباري]

3. قصة أم الدرداء مع الجبل:

روى ابن أبي الدنيا أن أم الدرداء رضي الله عنها كانت إذا سافرت فصعدت على جبل تقول لمن معها: "أسمعت الجبال ما وعدها ربها؟" فيقال: "ما أسمعها؟" فتقول: "﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ۝ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا﴾ [طه: 105-107]". [ابن القيم، مفتاح دار السعادة]

4. قصة سلام الصخرة على النبي صلى الله عليه وسلم

روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم على قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن." (صحيح مسلم)

5. قصة التكبير مع سلمان الفارسي

روى عمرو بن مرة قال: "كنا مع سلمان في سفر، فمر بشجرة، فأخذ منها غصناً يابساً فحركه فتحات أوراقه، فقال: ألا تسألوني لم أصنع هذا؟ قلنا: ولم صنعت هذا يا أبا عبد الله؟ قال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: الله أكبر، تحاتت خطاياه كما تتحات هذه الورقة"." (أخرجه أحمد وصححه شعيب الأرناؤوط)

6. آثار عن تسبيح الحجارة:

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الماء فيسمع له نقيق، أو تسبيح، حتى يبلغ به من يريد أن يبلغه." (ذكره ابن كثير في البداية والنهاية)

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الحجر والمدر يسلم عليه." (رواه مسلم)

7. قصة تسبيح الطعام

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "كنا نعدّ آيات النبي صلى الله عليه وسلم بركة وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل." [رواه البخاري]

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل." (رواه البخاري)

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وقوله: كنا نسمع تسبيح الطعام، المراد بالطعام هنا المأكول من خبز وتمر ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة؛ لأن سماع تسبيح الجماد خارق للعادة." (فتح الباري)

8. قصة خشوع الجبل

روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم، فضربه برجله وقال: "اثبت أُحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان." [صحيح مسلم]

قال الإمام النووي: "وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفضيلة ظاهرة للثلاثة المذكورين معه، وفيه دلالة على أن الجبل فيه إدراك." [شرح النووي على صحيح مسلم]

9. تلبية الأرض عن يمين المؤمن وشماله

حديث سهل بن سعد السَّاعديّ -رضي الله عنهما: «ما مِن مسلمٍ يُلَبِّي إلا لَبَّى مَن عن يمينهِ أو عنْ شِمالِهِ مِن حَجَرٍ أو شجَرٍ أو مَدَرٍ، حتَّى تَنْقَطِعَ الأرضُ مِن ها هنا وها هنا».

رواه الترمذي برقم: (828) واللفظ له، وابن ماجه برقم: (2921)، والحاكم برقم: (1656)، وابن خزيمة برقم: (2634) -. صحيح الجامع برقم: (5770)، صحيح الترغيب والترهيب برقم: (1134).

وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي - -:
قال: «إذا لبَّى المسلم لبَّى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض» كله يلبِّي، هذا الجماد يحب ذكر الله -جلَّ جلالُهُ-؛ ولذلك ينبغي للمسلم أنْ يكثر من هذه التلبية، وأنْ يرفع بها الصوت.

وقال الملا علي القاري -رحمه الله-:
في الحديث: دلالة ظاهرة على إدراك الجمادات والنباتات الأمور الواقعة في الكائنات، وعلمها بربها من توحيد الذات، وكمال الصفات، وأنَّ تلبيتها وتسبيحها بلسان القال، كما عليه جمهور أهل الحال، فإنَّ التأويل الذي يقبل التسبيح يأبى عنه التلبية بالتصريح، فيكون بلسان القال هو الصح. (مرقاة المفاتيح)

10. قصة الإمام الشافعي مع الحجر الأسود

روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن الربيع بن سليمان قال: "كنت عند الشافعي بمكة، فجاء رجل فسأله عن الحجر الأسود، فقال الشافعي: إنه حجر، ولكنه من حجارة الجنة، وإنه لما أهبط الله آدم من الجنة أهبط معه هذا الحجر، وكان أبيض فاسود من خطايا بني آدم، وإنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة." [الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد]

11. ابن عباس ورواياته عن نزول الحجر الأسود من الجنة:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة». أخرجه الترمذي والنسائي، وصححه الترمذي. وفي رواية أخرى: «الحجر الأسود من الجنة». أخرجه النسائي وصححه الألباني.

بياضه الأصلي:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن». أخرجه الترمذي وأحمد، وصححه ابن خزيمة، وقواه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وفي رواية أخرى: «أشد بياضًا من الثلج». أخرجه أحمد.

اسوداده بسبب خطايا بني آدم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فسودته خطايا بني آدم». أخرجه الترمذي وأحمد. وفي لفظ: «حتى سوَّدته خطايا أهلِ الشِّركِ». أخرجه الترمذي والنسائي وأحمد وابن خزيمة.

شهادته لمن استلمه بحق يوم القيامة:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق». أخرجه الترمذي وابن ماجه. والحديث حسنه الترمذي، وقواه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري". وفي رواية أخرى: «إن لهذا الحجر لسانا وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق». أخرجه ابن ماجه.

المبحث الثالث: تجليات سجود المخلوقات

أولا: سجود الظلال وتفيؤها

من أبرز مظاهر سجود الكون لله، سجود الظلال وتفيؤها، كما قال تعالى:

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾

النحل: 48

قال الإمام ابن القيم: "والتفيؤ هو تحول الظل وميلانه من جانب إلى جانب تبعاً لحركة الشمس. فالظل في الصباح يكون ممتداً نحو الغرب، ثم يأخذ في التقلص والانحسار كلما ارتفعت الشمس، حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء، بدأ الظل في الامتداد نحو الشرق، ويستمر في الامتداد حتى غروب الشمس. وقد وصف الله هذه الحركة للظلال بأنها سجود له." (ابن القيم، مفتاح دار السعادة)

وقد ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره: "وصف سبحانه ظلال الأشياء بالسجود له، والمراد من سجود الظلال هو تغيرها بحسب تغير أحوال الشمس، فإذا كانت الشمس في المشرق كان الظل ممتداً إلى المغرب، وإذا ارتفعت نقص الظل، وإذا غربت عاد الظل إلى نحو المشرق." [الرازي، مفاتيح الغيب]

وروى ابن أبي حاتم عن قتادة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ قال: "ألم تر إلى ظلك حين تصبح وحين تمسي، يذهب هكذا وهكذا، لا يستطيع أن يمتنع مما أراد الله." (ابن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم)

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن لكل شيء ظلاً، فظل المؤمن يسجد لله طائعاً، وظل الكافر يسجد لله كارهاً." (ذكره القرطبي في تفسيره)

قد يعترض البعض بعقولهم المحدودة، قائلين: كيف تسجد الظلال وهي أعراض بلا جوهر؟ لكن هذا فهم قاصر، يعمم المعارف البشرية على الكون كله، وينسى أن للعرض كيانه كما للجوهر كيانه. ألم يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الموت، وهو عرض، سيظهر يوم القيامة كهيئة كبش يُذبح بين الجنة والنار؟

كما في قوله: "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت..." (رواه البخاري ومسلم).

هذه الحقائق تُدرك بالقلب والتذوق، لا بالتخيل المحدود، فحواسنا لا تدرك إلا ما هو في دائرتها الضيقة، بينما الكون يسجد لله بقلوب نراها بعيون الإيمان

سجود الظلال: مع حركة الشمس من الشروق إلى الغروب، تمتد ظلال الأشجار والجبال والبشر برفق وكأنها تسجد لله. في مشهد صامت مفعم بالخضوع، يروي قصة سجود لا تدركه الأبصار لكنه يجري أمامنا كل يوم.

ثانيا: خشوع الجبال

تشير آيات القرآن الكريم إلى خشوع الجبال والسماوات والأرض وامتثالها لأمر الله تعالى:

قال تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾

الحشر: 21

قال الإمام البيضاوي: "هذا تمثيل لعظمة القرآن، ومبالغة في وصفه بشدة التأثير، والمعنى: أن هذا القرآن بما فيه من الوعد والوعيد وعظمة الله تعالى وكبريائه لو نزل على جبل مع قساوته وصلابته لتصدع من خشية الله." (البيضاوي، أنوار التنزيل)

وقال محمد الأمين الشنقيطي: "فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل، لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى: "خاشعاً متصدعاً من خشية الله". كما جاء في القرآن الكريم ما يدل على أقل من هذا التصدع في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]. فهذا نص صريح بأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة." (الشنقيطي، أضواء البيان)

وروي عن الحسن البصري أنه قال عند تلاوة هذه الآية: "يا ابن آدم، أنزل الله عليك هذا القرآن فاتخذته وراءك ظهرياً، ولو أنزله على الجبل لقام بحقه." (ذكره القرطبي في تفسيره)

هذا الخشوع يعكس حياة الجبال الواعية، كما في قوله: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: 72]، وكما في قوله: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدًا﴾ [مريم: 90-91]. السماوات تكاد تتشقق، والأرض تكاد تنشق، والجبال تكاد تنهار، غضبًا لله وشفقة على جنابه،

يشير الدكتور نور الدين أبو لحية إلى أن هذا الخشوع دليل على قلب الكون الحي الذي يتفاعل مع عظمة الله (أكوان الله)

ثالثا: هبوط الجبال من خشية الله

يقدم القرآن الكريم صورة بديعة لتصدع الجبال من خشية الله، قال تعالى:

﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾

البقرة: 74

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن من الحجارة لما يهبط من رأس الجبل من خشية الله." وقال مجاهد: "ما من صخرة تتدهور من رأس جبل إلا من خشية الله." (تفسير الطبري، 2/294)

وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ قال: "ما تدلى من الجبال فهو خشية الله، وما هبط منها فهو من خشية الله." (تفسير الطبري)

وقال الإمام ابن كثير: "في هذه الآية توبيخ لبني إسرائيل وتقريع لهم على قسوة قلوبهم بعد مشاهدة الآيات والمعجزات، ثم ضرب مثلاً لقلوبهم في قسوتها كالحجارة وأشد، ثم أخبر عن الحجارة أن منها ما هو أرق من قلوبهم، لأن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، ومنها ما يتشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله." (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم)

رابعا: تفطر السماوات وغضبة الجبال الكونية

قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ۝ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾

مريم: 88-91

"هذه الدعوى المنكرة الشنيعة لم تواجه بالاستنكار والتشنيع فقط، بل إن الكون كله يكاد ينهار ويتحطم لهولها، وكأنما هي قارعة تهد أركان الوجود كله، وتزلزل الملأ الأعلى كله. فالسموات تكاد تتشقق والأرض تنشق والجبال تنهار، استفظاعاً وإنكاراً لهذه المقولة النكراء."

خشوع الجبال: جبل شامخ يتشقق برفق، والسماء من فوقه تتوهج بخشوع صامت، بينما الأرض تغمرها السكينة والانكسار. مشهد يصور كيف تخشع المخلوقات العظيمة تحت تأثير كلام الله، فكيف بقلوب البشر الضعيفة؟

غضب الجبال من الشرك: تتهشم الجبال العظيمة كأنها صرخات ألم، بينما السماء تمزقت سحبها بانفجارات غاضبة. الأرض من تحتها تهتز، كأن الكون كله يعلن غضبه ورفضه لسماع كلمات الشرك التي تفتري على الخالق العظيم.

المبحث الرابع: سجود الكون في ميزان العلم الحديث

أشارت بعض الدراسات العلمية الحديثة إلى مظاهر استجابة ووعي في الكائنات:

1. دراسات باكو كالفو في جامعة مورسيا الإسبانية:

أجرى الباحث بعض التجارب على نباتات اللبلاب لدراسة ما سماه "سلوك النبات". وأشار إلى أن النباتات قد تظهر سلوكاً موجهاً نحو هدف محدد، مما يقترب من الصورة التي رسمها القرآن لوعي النباتات. (موقع مجلة العلوم، تجارب ثورية جديدة تشير إلى وجود وعي لدى النباتات 2022)

2. دراسة مونيكا غاغليانو:

أجرت تجارب على نبات "نبتة الحياء" Mimosa Pudica، وأظهرت أن النبات يتعلم من التجارب السابقة ويتكيف معها، حيث يتوقف عن الاستجابة للمنبهات غير الضارة بعد تكرارها. [المصدر السابق]

خشوع الجبال وتصدعها: دراسات علمية

أشارت دراسات جيولوجية حديثة إلى بعض الظواهر المتعلقة بالجبال، ومنها:

1. الجبال أوتاد الأرض:

يقول الدكتور زغلول النجار: "أثبتت الدراسات الجيولوجية الحديثة أن للجبال جذوراً تمتد في باطن الأرض بصورة أعمق بكثير من امتدادها فوق سطح الأرض، وهي تشبه الأوتاد تماماً، حيث إن الجزء الظاهر من الوتد هو الأقل، والجزء المغروز في الأرض هو الأكبر، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ: 7]." (النجار، من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم)

2. الجبال تتصدع وتهبط:

يشير القرآن الكريم إلى تصدع الجبال من خشية الله، وهو تعبير عن عظمة الخالق وقدرته المطلقة. وفي العلم، نفهم أن الجبال تتصدع وتهبط بفعل عمليات طبيعية معقدة كالتحوية الميكانيكية والكيميائية، وتساقط الصخور، والتعرية، وهي قوانين وسنن كونية أودعها الله في خلقه. فكلاهما، النص القرآني والفهم العلمي، يدلان على إتقان صنع الله وعظيم سلطانه في الكون.

3. حركة الجبال:

بينما تبدو الجبال ثابتة، فإنها في حركة دائمة بسبب دوران الأرض حول نفسها. فالجبال الواقعة على خط استواء الأرض، على سبيل المثال، تتحرك بسرعة مماسية تبلغ حوالي 1672.5 كيلومترًا في الساعة نتيجة لدوران الأرض. أما الجبال الواقعة بين خط الاستواء ومحور دوران الأرض فتتحرك بسرعات مختلفة، لكنها لا تتجاوز هذه القيمة. وهذا يعني أن الجبال، على الرغم من أنها تبدو ثابتة بالنسبة لنا، إلا أنها تتحرك بسرعات مماثلة لسرعة السحب وحتى الطائرات الأسرع من الصوت بسبب دوران الأرض.

يقول الدكتور زغلول النجار في كتابه "من آيات الإعجاز العلمي: الأرض في القرآن الكريم" (ص 223-224، طبعة دار المعرفة، 2006):

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾

النمل: 88

"في هذه الآية إشارة إلى حركة الجبال التي هي جزء من حركة الأرض، ولكن سرعة هذه الحركة - مع ضخامة كتلة الأرض والجبال - تجعلها غير محسوسة للإنسان، فيحسب الرائي أن الجبال ثابتة جامدة في مكانها، بينما هي في حركة مستمرة مع حركة الأرض."

المبحث الخامس: الآثار الإيمانية والتربوية للإيمان بسجود الكون

ذكر العلماء آثاراً إيمانية وتربوية عديدة للإيمان بسجود الكون لله، منها:

1. تعميق الإيمان بالله

ومن تفكر في خضوع الكائنات لله، وسجودها له، وتسبيحها بحمده، زاد إيمانه بالله، وخشيته له.

2. الحرص على السجود لله:

إذا علم المؤمن أن الكون كله يسجد لله، تحرك قلبه للسجود، واستحيا أن يكون متخلفاً عن الموجودات كلها في الخضوع لله."

3. الخشوع في الصلاة

من علم أن الجبال تخشع لله، استحيا أن يكون قلبه قاسياً في صلاته."

4. التواضع لله

فالمتكبر لا يعلم أن الكون كله متواضع لله، فلو علم ذلك لتواضع."

5. الاستقامة على أمر الله:

إذا تفكر العبد في امتثال الكون كله لأمر الله، علم أن المخلوقات كلها مستقيمة على أمر الله إلا من عصى من الجن والإنس، فتحرك قلبه للاستقامة.

من الآثار الإيمانية والتربوية للإيمان بسجود الكون

ومن الآثار الإيمانية والتربوية للإيمان بسجود الكون لله تعالى: تعميق الإيمان بالله، والحرص على السجود له، والخشوع في الصلاة، والتواضع لله، والاستقامة على أمره، والتأمل في مظاهر قدرته تعالى، وتربية الضمير، وتزكية النفس

إذا شاهد المؤمن سجود المخلوقات لربها، وخضوعها لعظمته، تنبه قلبه لذكر الله، واستشعر هيبته، وتعجب من قدرته، وأدرك عظمة ربوبيته، وشمول رحمته، ونفاذ مشيئته."

إذا علم العبد أن الحجر يلين لخشية الله، أدرك أن قسوة القلب من أعظم المصائب، فبادر إلى تليينه بذكر الله، وقراءة القرآن، والبكاء من خشية الله

المبحث السادس: سجود الكون: دعوة للتأمل والتفاعل

عزيزي القارئ، بعد هذه الرحلة المعرفية في رحاب سجود الكون وخشوعه، ندعوك لتجربة روحانية مع هذه الحقيقة الكونية العظيمة. فالسجود هو أقرب ما يكون العبد من ربه، كما قال المصطفى ﷺ: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". والله تعالى أمر نبيه عندما ضاق صدره: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: 98].

تأملات في لحظات السجود

1. سجود الفجر: انضمام لسيمفونية كونية

أذكرُ أنني كنت ذات فجر في سجدة طويلة قبل صلاة الفجر، وقد تسربت خيوط الضوء الأولى لتلامس سجادتي. شعرت في تلك اللحظة أن جبهتي على الأرض تلتقي مع آلاف الأجسام الساجدة - الأشجار تنحني مع نسيم الفجر، والندى يتقاطر كدموع الخاشعين، والطيور تغرد تسابيح الصباح.

وكأنني في تلك السجدة كنت أنضم إلى جيوش الساجدين لله، كل ساجد فيها يعزف لحن الخضوع والتذلل لله. تذكرت قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ﴾، وأدركت أن سجودي ليس منفرداً، بل هو جزء من موكب الكون الساجد.

💫 تأمل معي:

في سجدتك الأولى من صلاة الفجر، استشعر أن الكون كله ينضم إليك في هذه السجدة. الشمس التي تستعد للشروق تسجد تحت العرش، والنباتات تنحني مع قطرات الندى، والطيور تبدأ تسبيحها. استشعر وحدة العبودية التي تجمعك مع كل ذرة في هذا الكون، واهمس في سجودك: "سبحان ربي الأعلى الذي سجد له كل شيء".

2. سجود الشدة: دواء لضيق الصدر

مرت بي فترة شديدة القسوة، ضاق فيها صدري بهموم الدنيا وأثقالها. وجدت نفسي أطيل السجود في صلاتي، أضع جبهتي على الأرض وأترك الدموع تنساب.

وتذكرت وصفة القرآن للنبي ﷺ حين ضاق صدره: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾.

في تلك السجدات الطويلة، كنت أشعر أن الأرض تستقبل دموعي كما تستقبل المطر، وأن الجبال الشامخة تتصدع من خشية الله، وأن كل المخلوقات التي ضاقت بها السبل تجد في السجود ملاذها. كان السجود يفتح قلبي على اتساع الكون، فتتلاشى ضيقات النفس أمام رحابة الإيمان.

💫 تأمل معي:

عندما تشعر بضيق في صدرك أو حزن في قلبك، خذ وقتاً لسجدة طويلة. استشعر أن الأرض التي تضع عليها جبهتك قد شهدت مليارات السجدات على مر القرون، وأنها تشاركك آلامك وأحزانك. استشعر أن الجبال والصخور تشتكي إلى الله كما تشتكي أنت، وأنها تجد في السجود راحتها. ابكِ إن استطعت، واعلم أن دموع السجود تطفئ وهج الحزن وتروي بذور الأمل. وردد في سجودك: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"

3. سجود القرب: رحلة معراج يومية

في ليلة من الليالي، وبعد صلاة العشاء، سجدت سجدة شكر طويلة. أغمضت عيني، وأرخيت عضلاتي، وحاولت أن أغيب عن كل شيء سوى الحضور بين يدي الله. تذكرت قوله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، وبدأت أردد في سري: "سبحان ربي الأعلى" مراراً وببطء.

مع كل تسبيحة، كنت أشعر أنني أقترب خطوة من الله، وأن حُجُب الغفلة تتلاشى واحدة تلو الأخرى. شعرت أن الكون كله يقترب معي - الذرات في جسدي، والهواء في رئتي، والأرض تحت جبهتي - الكل في حركة صعود روحية نحو الخالق.

كانت تلك السجدة أشبه برحلة معراج يومية - صعود من عالم المادة إلى عالم الروح، ومن ضيق الأرض إلى اتساع السماء، ومن ظلمة الغفلة إلى نور الحضور.

💫 تأمل معي:

في سجودك القادم، تذكر أن السجود معراج روحي. ردد في سجودك: "سبحان ربي الأعلى" ببطء شديد، متأملاً كل حرف، مستشعراً معانيه. مع كل تسبيحة، تخيل أنك تصعد درجة في سلم القرب من الله. استحضر قول الله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾. اجعل مقصدك من السجود التقرب، وليس مجرد أداء ركن من أركان الصلاة.

أسئلة للتفكر في أسرار السجود

1. السجود: لغة التواصل مع الكون

2. لماذا كان السجود أقرب لحظات العبد إلى ربه؟

3. السجود كدواء للنفس والروح

تطبيقات عملية لتعميق تجربة السجود

1. سجدات التأمل اليومية

خصص كل يوم لسجدة تأمل خاصة، خارج الصلوات المفروضة. اجعل لها وقتاً محدداً - قبل صلاة الفجر، أو قبل النوم مثلاً. اسجد سجدة طويلة (3-5 دقائق)، وركز فيها على استشعار وحدة السجود الكوني.

في هذه السجدة، تأمل في معنى واحد من معاني السجود كل يوم: يوم للقرب، ويوم للتذلل، ويوم للشكر، ويوم لطرح الهموم، ويوم للدعاء. مع الوقت، ستلاحظ تحولاً عميقاً في علاقتك بالسجود.

2. يوميات الدعاء في السجود

اعتمد دفتراً خاصاً تسجل فيه أدعيتك في السجود وما تشعر به خلاله. اكتب الدعاء الذي خطر على قلبك في السجود، واكتب مشاعرك واستشعاراتك.

مع مرور الوقت، ستلاحظ أنك بدأت تطور لغة خاصة بينك وبين الله في السجود، وستكتشف أنماطاً في دعائك واستجابة الله له، وستتعمق علاقتك بسجودك.

3. "واسجد واقترب": منهج عملي للسجود

طبق هذا البرنامج العملي لتعميق تجربة السجود في حياتك:

4. المشاركة الأسرية في تجربة السجود

اجعل أفراد أسرتك يشاركونك هذه التجربة الروحية. اجلسوا معاً بعد صلاة العشاء مثلاً، وليشارك كل فرد تجربته مع السجود: ماذا يشعر وهو ساجد؟ ما الدعاء الذي يردده غالباً؟ هل له تجربة خاصة مع السجود؟

هذه المشاركات ستبني جسراً روحياً بين أفراد الأسرة، وستعمق فهم الأطفال لمعنى السجود، وستجعله تجربة حية في قلوبهم، وليس مجرد حركة آلية.

أختم هذا القسم التفاعلي بتجربة لن أنساها ما حييت: في ليلة من ليالي رمضان، كنت أصلي التراويح في المسجد الحرام. وفي سجدة من السجدات، خطر في قلبي خاطر غريب. شعرت أنني أسجد على نفس البقعة التي سجد عليها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنني أضع جبهتي حيث وضع محمد ﷺ جبهته.

وفجأة شعرت بموجة من الدموع تنهمر من عيني، وأحسست أنني لست وحدي في هذا السجود، بل تشاركني فيه أجيال من الساجدين عبر القرون. كأن الزمن توقف، وانفتحت نافذة على كل العصور، فالتقت السجدات كلها في لحظة واحدة أبدية.

في تلك اللحظة، فهمت معنى قوله تعالى: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ بعمق لم أختبره من قبل. السجود ليس مجرد ركن في الصلاة، بل هو رحلة قرب، ومنتهى العبودية، ومفتاح أسرار الكون والوجود.

عزيزي القارئ، أدعوك أن تعيد اكتشاف سجودك، وأن تجعله لحظة لقاء حقيقي مع الله، وأن تستشعر فيه وحدة الكون الساجد من حولك. فمع كل سجدة خاشعة، تنضم إلى موكب الكون العظيم الذي يخر ساجداً لله الواحد الأحد.

خلاصة الفصل

في هذا الفصل، استعرضنا الأدلة القرآنية على سجود الكون وخشوعه لله تعالى، وبينا أن هذا السجود حقيقي نابع من وعي حقيقي وإدراك لعظمة الخالق جل وعلا.

وأوردنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتحدث عن سجود الكائنات لله، وعرضنا أقوال السلف وقصصهم في هذا الباب، ولا سيما قصة جذع النخلة الذي حن للنبي صلى الله عليه وسلم، وقصة تسبيح الحصى والطعام، وقصة سجود الشمس تحت العرش.

كما ألقينا الضوء على بعض الدراسات العلمية الحديثة التي تشير إلى مظاهر استجابة ووعي في الكائنات، وبينا كيف يمكن فهم هذه المظاهر في ضوء ما جاء في القرآن الكريم من سجود المخلوقات لله تعالى.

وختمنا الفصل ببيان الآثار الإيمانية والتربوية للإيمان بسجود الكون لله تعالى، وكيف أن هذا الإيمان يؤدي إلى تعميق الإيمان بالله، والحرص على السجود له، والخشوع في الصلاة، والتواضع له سبحانه، والاستقامة على أمره.

وفي الفصل القادم، سنتناول موضوع مشاعر الكون وانفعالاته، وهو جانب آخر من جوانب وعي الكون وإدراكه.

والله أعلم وأحكم.