الفصل الثالث
رحلة في معاني الطاعة والخضوع الكوني الشامل
في فضاء الكون الشاسع، تنساب أنغام خفية من كل ذرة وكل مجرة، أنغام الخضوع والقنوت، تعزفها الكائنات بكل أشكالها وأحجامها في معزوفة كونية متناغمة. إنها سمفونية القنوت الكوني التي تتجلى في صمت السماوات وهمس الأرض وتأوه الجبال، حيث تقف المخلوقات جميعاً في محراب العبودية، خاشعة لجلال خالقها، منحنية لعظمة بارئها.
في هذا الفصل، سنبحر في أعماق هذه الحقيقة الكونية المذهلة، حيث لا يوجد ذرة واحدة في هذا الوجود إلا وهي قانتة لله، خاضعة لسلطانه، مستسلمة لمشيئته. سنتأمل في مفهوم القنوت الكوني وتجلياته، وسندرك كيف أن الكون بأسره يقف في حالة عبودية دائمة، يشهد للخالق بالوحدانية والعظمة، ويمثل أمامه في خشوع وإجلال.
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾
الروم: 26
هذه الآية الكريمة تفتح أمامنا بابًا واسعًا لفهم طبيعة العلاقة بين الخالق ومخلوقاته، وتكشف لنا عن حقيقة جوهرية تسري في عروق الكون: حقيقة الخضوع المطلق والانقياد التام لإرادة الله تعالى.
في صمت لا تدركه الآذان، تعزف النجوم أنغام القنوت، وتركع الجبال في خشوع، وتهدر الأمواج بتراتيل الطاعة. كل ذرة في هذا الوجود قائمة بين يدي خالقها، لا تشذ، لا تتردد، بل تسجد... كما فُطرت.
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم﴾
القنوت في اللغة مشتق من جذر "قنت"، وهو يدور حول معاني الطاعة والخضوع والدوام.
قال الراغب الأصفهاني: "القنوت: الطاعة مع الخضوع، وأصله طول القيام، ثم استعمل في كل طاعة". وقال ابن منظور: "القنوت: الطاعة والقيام بها... وقنت الرجل: أطال القيام في الصلاة، وقنت لله: أطاعه".
وفي الاصطلاح الشرعي، القنوت هو الطاعة المستمرة المقترنة بالخضوع والخشوع والتذلل لله سبحانه وتعالى. يقول ابن القيم: "القنوت في كلام العرب: دوام الطاعة، والقيام بحق العبودية".
وهو حالة من حالات العبودية العميقة التي تتجلى فيها أسمى معاني الانقياد والاستسلام للخالق عز وجل.
وقد ورد القنوت في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، منها:
﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾
الروم: 26
﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
البقرة: 238
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾
الزمر: 9
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾
الحج: 31
وهذه المعاني كلها تدور حول محور واحد، وهو التذلل والخضوع لله تعالى، والانقياد المطلق لأمره، سواء كان ذلك في العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق، أو غيرها من جوانب الحياة.
قنوت الكون لله تعالى يعني أن كل ذرة في هذا الوجود تخضع لله وتستسلم لأمره وتنقاد لمشيئته. وهذا القنوت الكوني يتجلى في مظاهر متعددة، منها:
الكون يسير وفق نظام دقيق وقوانين محكمة وضعها الله تعالى، ولا يمكن لأي مخلوق أن يخرج عنها. فالشمس تشرق وتغرب، والليل يعقب النهار، والفصول تتعاقب، والكواكب تدور في مداراتها، والأمطار تنزل، والرياح تهب، كل ذلك وفق نظام إلهي دقيق لا يختل ولا يضطرب. قال تعالى:
﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾
يس: 40
يتجلى قنوت الكون أيضًا في استجابته الفورية لأمر الله عند خلقه وتكوينه. قال تعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾
فصلت: 11
فالسماء والأرض استجابتا لأمر الله فورًا، واختارتا الإتيان طوعًا لا كرهًا، وهذا من تمام قنوتهما لله تعالى.
الكون مسخر بأمر الله لخدمة الإنسان، وهذا من مظاهر قنوته وانقياده. قال تعالى:
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾
الجاثية: 13
فالشمس والقمر والنجوم والرياح والبحار والأنهار والجبال والدواب، كلها مسخرة بأمر الله لخدمة الإنسان، وذلك من تمام قنوتها لله تعالى.
يتجلى قنوت الكون أيضًا في الحكمة والإتقان اللذين يظهران في خلق الله، قال تعالى:
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
النمل: 88
فالكون يعكس في تكوينه وبنائه وتنظيمه ذروة الإتقان والإبداع، وهذا دليل على كمال انقياده وخضوعه لمشيئة خالقه.
من مظاهر قنوت الكون أيضًا شهادة أعضاء الجسد على صاحبها يوم القيامة. قال تعالى:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
يس: 65
فأعضاء الجسد تنطق وتشهد بالحق، وتخضع لأمر الله، وهذا من تمام قنوتها له سبحانه.
ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تؤكد قنوت الكون لله تعالى، منها:
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾
البقرة: 116
هذه الآية ردٌّ حاسم على من ادعى أن لله ولدًا، فالله تعالى ينزه نفسه عن ذلك، ويبين أن كل ما في السماوات والأرض ملك له وقانت له، أي خاضع له خضوعًا تامًا، وهذا ينافي ادعاء البنوة لله تعالى.
﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
آل عمران: 83
هذه الآية تبين أن كل ما في السماوات والأرض قد أسلم لله، أي استسلم وانقاد له، سواء كان ذلك طوعًا باختياره، أو كرهًا بإلزامه.
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
آل عمران: 83
هذه الآية تستنكر على من يبتغي دينًا غير دين الله، مع أن كل ما في السماوات والأرض قد أسلم لله وانقاد له.
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾
الزمر: 9
هذه الآية تصف المؤمن الحق بأنه قانت لله في جميع أوقاته، ساجدًا وقائمًا، خائفًا من عذاب الآخرة، راجيًا رحمة ربه.
هذه الآيات وغيرها تؤكد أن قنوت الكون لله تعالى حقيقة ثابتة، وأن كل ذرة في هذا الوجود خاضعة لله تعالى، منقادة لأمره ومشيئته.
يمكن تقسيم قنوت الكون لله إلى نوعين رئيسيين: القنوت الاختياري، والقنوت الإجباري. وهذا التقسيم يعكس طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويبين الفرق بين المخلوقات المكلفة والمخلوقات غير المكلفة.
وهو القنوت الذي يكون باختيار المخلوق وإرادته، كقنوت الإنسان المؤمن الذي يختار طاعة الله وعبادته عن طواعية واختيار. وهذا النوع من القنوت هو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، لأنه نابع من اختيار حر وإرادة واعية.
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾
الإنسان: 3
فالله تعالى هدى الإنسان وبين له طريق الخير وطريق الشر، وتركه يختار بحرية وإرادة، إما أن يكون شاكرًا مؤمنًا قانتًا لله، وإما أن يكون كفورًا عاصيًا متمردًا.
ويتميز القنوت الاختياري بأنه مبني على المعرفة والوعي، فالإنسان المؤمن يقنت لله عن علم ومعرفة، ويسبح بحمده عن وعي وإدراك. وهذا ما يجعل لقنوته قيمة وأهمية خاصة، لأنه نابع من اختيار واعٍ، لا من اضطرار قاهر.
وهو القنوت الذي يكون بإلزام من الله وقهره، كقنوت الكافر الذي يخضع لقوانين الله الكونية رغمًا عنه، وكقنوت الجمادات والنباتات والحيوانات التي لا تملك خيار مخالفة أمر الله. وهذا النوع من القنوت لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، لأنه ليس نابعًا من اختيار حر.
يقول الله تعالى:
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾
الرعد: 15
فالإنسان المؤمن يسجد لله طوعًا واختيارًا، أما الإنسان الكافر والمخلوقات غير المكلفة فتسجد لله كرهًا وإجبارًا، أي أنها خاضعة لقوانين الله الكونية ولا تستطيع الخروج عنها.
قال تعالى:
﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
آل عمران: 83
هذه الآية الكريمة تبين أن كل ما في السماوات والأرض قد أسلم لله، أي استسلم وانقاد له، وقد قسمت الآية هذا الإسلام إلى قسمين:
وهو استسلام المخلوق لله باختياره وإرادته، كاستسلام المؤمنين بالله والملائكة. وهؤلاء استسلموا لله في أوامره الشرعية والكونية معًا، فهم يطيعون أوامر الله الشرعية باختيارهم، كما أنهم خاضعون لأوامره الكونية بطبيعتهم.
وهو استسلام المخلوق لله رغمًا عنه، كاستسلام الكفار والمنافقين، وكذلك استسلام الجمادات والنباتات والحيوانات. وهؤلاء خاضعون لأوامر الله الكونية بالضرورة، فلا يستطيعون الخروج عنها، وإن كان الكفار والمنافقون لا يستسلمون لأوامر الله الشرعية باختيارهم.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي: الجميع عبيده وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه، فالمؤمنون مستسلمون لأمره الشرعي طوعًا، والكافرون مستسلمون لأمره الكوني قهرًا".
(ابن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، ج/2، ص 66)
وفي هذا السياق، قال الإمام ابن تيمية: "المخلوقات كلها منقادة لربها، والانقياد نوعان: انقياد باختيار العبد، وهو طاعته لله وأمره الديني، وانقياد بغير اختياره، وهو خضوعه لما قدره الله عليه وقضاه".
(ابن تيمية، "مجموع الفتاوى"، ج/8، ص 173)
وهذا الإسلام الكوني الشامل، سواء كان طوعًا أو كرهًا، هو ما تشير إليه الآية الكريمة:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
آل عمران: 19
فالإسلام بمعناه العام، وهو الاستسلام لله والانقياد لأمره، هو دين الكون جميعًا، وهو ما لا يتخلف عنه مخلوق.
يقول الله تعالى:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾
الأحزاب: 72
هذه الآية الكريمة تحكي قصة عظيمة من قصص القرآن، وهي قصة عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإبائها حملها، وحمل الإنسان لها. وقد اختلف المفسرون في المراد بالأمانة على أقوال كثيرة، أشهرها:
والراجح - والله أعلم - أن الأمانة تشمل جميع التكاليف الشرعية والمسؤوليات التي حملها الإنسان، وعلى رأسها توحيد الله وأعظمها الإيمان بالله تعالى والقيام بحقوقه، ثم حقوق العباد والمخلوقات.
وقد اختلف المفسرون أيضًا في المراد بقوله تعالى: ﴿فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾، على قولين رئيسيين:
أن الإباء والإشفاق حقيقيان، أي أن الله تعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال عرضًا حقيقيًا، وخيرها بين قبولها ورفضها، فاختارت رفضها لعظم المسؤولية وثقل التبعة. وهذا هو ظاهر النص القرآني، وهو قول جمهور السلف.
أن الإباء والإشفاق مجازيان، والمراد بهما بيان عظم الأمانة وثقلها، وأنها لو عرضت على هذه المخلوقات العظيمة لأبت حملها وأشفقت منها. وهذا قول بعض المفسرين المتأخرين.
والراجح - والله أعلم - هو القول الأول، لأنه ظاهر النص، والأصل في النصوص الشرعية أن تحمل على ظاهرها ما لم يصرفها عن ذلك دليل. وليس هناك ما يمنع من أن يخلق الله في هذه المخلوقات إدراكًا ووعيًا تفهم به الخطاب، وتختار به ما تراه مناسبًا لها.
بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال حمل الأمانة، حملها الإنسان. قال تعالى:
﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾
وقد اختلف المفسرون في وصف الإنسان بأنه "ظلوم جهول" على أقوال:
أن الوصف للذم، أي أن الإنسان ظلم نفسه بحمل الأمانة وتحمل المسؤولية مع عجزه وضعفه، وجهل عاقبة الأمر وما يترتب عليه. وهذا قول بعض المفسرين.
أن الوصف للمدح، أي أن الإنسان قوي شجاع، تحمل ما لم تتحمله السماوات والأرض والجبال. وهذا قول بعض المفسرين.
وقف الإنسان وحيدًا في محراب الكون، وقد انسحبت السماوات، وأعرضت الأرض، وجلجلت الجبال بالصمت... كلها أشفقت، حين عُرضت الأمانة. لكن الإنسان، هذا الكائن الضعيف الظاهر، القوي بالاختيار، قال: "أنا لها". وسارت الأكوان من حوله، شاهدةً على هذا العهد.
أن الوصف بيان للواقع، أي أن من طبيعة الإنسان الظلم والجهل، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، أي أن هذا الوصف كان ثابتًا له قبل حمل الأمانة.
حكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال: مثلت الأمانة كصخرة ملقاة، ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها، وقالوا: لا نطيق حملها، وجاء آدم من غير أن يدعى، وحرك الصخرة، وقال: لو أمرت بحملها لحملتها، فقلن له: احملها، فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها، وقال والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له: احملها فحملها إلى حقوه، ثم وضعها، وقال: والله لو أردت أن أزداد لزدت، فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه، فأراد أن يضعها فقال الله: مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
(تفسير البغوي - سورة الأحزاب)
وكلمة "ظلوم" صيغة مبالغة من ظالم، وكلمة "جهول" صيغة مبالغة من جاهل، مما يدل على شدة اتصاف الإنسان بهاتين الصفتين. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، والجهل هو عدم العلم. فالإنسان بطبيعته ميال إلى ظلم نفسه وظلم غيره، وهو جاهل بعواقب الأمور وحقائقها.
يقول العلامة ابن عاشور: "والظلوم: كثير الظلم، والجهول: كثير الجهل، وهما وصفان مشعران بعدم الأهلية لحمل الأمانة، لأن الخيانة ناشئة عن الظلم والجهل، فالخائن إما ظالم بقصد، وإما جاهل بما يترتب على خيانته من الوبال، فحمل الإنسان الأمانة إما عزم منه على أن يظلم نفسه، أو استخفاف بعظم الأمر وبسوء العاقبة".
(ابن عاشور، "التحرير والتنوير"، ج/22، ص 129)
واختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾ على قولين:
وعلى هذا، فإن حمل الإنسان للأمانة ليس محمودًا إطلاقًا ولا مذمومًا إطلاقًا، بل هو محمود من وجه، مذموم من وجه آخر:
ولذلك كان من انقسام البشرية إلى مؤمنين ومنافقين ومشركين في الآية التي تلي آية الأمانة مباشرة:
﴿لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾
الأحزاب: 73
عند التأمل في مشهد عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإبائها حملها، وإشفاقها منها، ثم حمل الإنسان لها، يمكن استخلاص عدة دلالات وإشارات عميقة:
السماوات والأرض والجبال، التي يراها البشر مجرد جمادات وأجرام صماء، تتمتع بوعي وإدراك يؤهلها لفهم الخطاب الإلهي، والرد عليه، واتخاذ القرارات. فهي رفضت حمل الأمانة عن وعي وإدراك، وأشفقت منها لعلمها بعظم المسؤولية وثقل التبعة. هذا الوعي الكوني يفتح آفاقًا رحبة لفهم العلاقة بين الإنسان والكون، ويؤسس لرؤية جديدة للوجود تتجاوز النظرة المادية الضيقة.
أظهرت السماوات والأرض والجبال حكمة بالغة وبصيرة نافذة، عندما رفضت حمل الأمانة وأشفقت منها. فهي أدركت - بفطرتها السليمة - أن هذه الأمانة ثقيلة، وأن تبعتها عظيمة، وأنها لا تملك من القوة والإرادة ما يمكنها من أدائها على الوجه المطلوب. وهذا يكشف عن جانب من خصائص الكون الواعي الذي يتمتع بالحكمة والبصيرة والفهم العميق للأمور.
حمل الإنسان الأمانة رغم عظمها وثقلها، وهذا يكشف عن ميزة فريدة للإنسان، وهي قدرته على التحمل والتكليف والاختيار، مع كل ما في طبيعته من ضعف وظلم وجهل. وهذه الميزة هي التي جعلته مؤهلًا لأن يكون خليفة الله في الأرض، وأن يحمل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملها.
يكشف المشهد عن منطق عميق وفلسفة حكيمة للجبال، التي اختارت البقاء على طبيعتها الفطرية، التي خلقها الله عليها، والتي تتمثل في الخضوع المطلق لإرادة الله وأوامره الكونية، دون إرادة ذاتية أو اختيار مستقل. وهذا المنطق يتجلى في موقفها (بلسان الحال أو المقال) المتمثل في أن حمل الأمانة يعني الخروج عن هذه الفطرة، والدخول في عالم المسؤولية والاختيار والمحاسبة، وهو ما لا تتحمله طبيعتها.
يبرز المشهد العلاقة الوثيقة بين الحرية والمسؤولية، فالأمانة تعني التكليف والاختيار، وهذا يستلزم الحرية والإرادة، ويترتب عليه المسؤولية والمحاسبة. ولهذا كان الإنسان - بما أوتي من عقل وإرادة - هو المخلوق الوحيد المؤهل لحمل هذه الأمانة، والذي يمكن محاسبته على أدائها أو تضييعها.
من الإشكالات التي أثارها بعض المفكرين: إذا كانت السماوات والأرض والجبال أبت حمل الأمانة وأشفقت منها، فلماذا لم يُذكر أن الإنسان خُير في حملها كما خُيرت هي؟ وكيف حملها الإنسان وهو لم يُعرض عليه الاختيار؟
للإجابة على هذا الإشكال، يمكن القول:
لم ينص القرآن صراحة على تخيير الإنسان في حمل الأمانة، لكن هذا التخيير موجود ضمنًا في قوله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ﴾، أي أنه اختار حملها باختياره وإرادته، ولم يُجبر عليها. وهذا يتوافق مع طبيعة الإنسان المخلوق على الاختيار والإرادة.
يمكن فهم حمل الإنسان للأمانة في ضوء الميثاق الأول الذي أخذه الله على بني آدم قبل وجودهم في هذه الحياة الدنيا، كما قال تعالى:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا﴾
الأعراف: 172
فقد يكون حمل الأمانة مرتبطًا بهذا الميثاق، وأن الإنسان قد اختار حملها في ذلك الموقف.
حمل الإنسان للأمانة قد يكون مرتبطًا بفطرته التي خلقه الله عليها، والتي تجعله مستعدًا بطبيعته لقبول التكليف والمسؤولية. فالإنسان مفطور على الاعتراف بربوبية الله والإقرار بوحدانيته، كما قال تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾
الروم: 30
يرى بعض العارفين أن حمل الأمانة يرتبط بتجلي الحق سبحانه في مرآة الإنسان، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكنه أن يكون مظهرًا للأسماء والصفات الإلهية الكاملة.
يقول بديع الزمان النورسي: "الإنسان مرآة عاكسة للأسماء الإلهية، وأعظم مرآة عاكسة لها، فهو جامع لمعانيها، ومتضمن لبعض حقيقتها، والكون كله مرآة كبرى لهذه الأسماء، أما الإنسان فمرآة جامعة لها كلها بصورة أخص وأوضح"
(رسائل النور)
ثمة قراءة فلسفية أخرى ترى أن حمل الإنسان للأمانة يعبر عن الحيرة الوجودية التي يعيشها الإنسان، فهو كائن متناقض، يجمع بين العظمة والحقارة، بين القوة والضعف، بين العلم والجهل. وهذه الحيرة هي التي دفعته إلى حمل الأمانة دون تقدير كامل لعواقبها، ومن هنا وُصف بأنه "ظلوم جهول".
من أروع المشاهد القرآنية التي تصور قنوت الكون وخضوعه لله، مشهد استجابة السماوات والأرض لأمر الله في بداية خلقهما. قال تعالى:
﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾
فصلت: 11
هذه الآية الكريمة ترسم مشهدًا عظيمًا من مشاهد الخلق الأولى، حيث كانت السماء دخانًا، أي مادة غازية منتشرة، وكانت الأرض في مرحلة التكوين. وفي هذه المرحلة المبكرة، خاطب الله السماء والأرض بصيغة الأمر المقترن بالتخيير: ﴿ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾، أي أن تأتيا إلى الوجود وتتشكلا على الصورة التي أريدها لكما، سواء كان ذلك باختياركما أو بإجباركما.
وجاءت استجابة السماء والأرض فورية وإيجابية: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، أي أنهما اختارتا الطاعة والانقياد لأمر الله عن رضا وقبول، لا عن إكراه وإجبار. وهذا يدل على وعي السماء والأرض، وقدرتهما على فهم الخطاب الإلهي والرد عليه، واختيار الطاعة الطوعية بدلًا من الإكراه.
في لحظة من لحظات النشأة الأولى، خاطب الله السماء وهي دخان، والأرض وهي في طور التكوين، فقال لهما: "ائتيا طوعًا أو كرهًا" فلم تترددا، ولم تحتجا، وقالتا معًا، في تسليم كوني كامل: "أتينا طائعين" تلك ليست كلمات... بل قنوت وجود، انقياد بلا صراع، طاعة بلا اضطرار، وعي كوني عميق، سابق للعقل، وسجود أول قبل أن تُخلق الجباه. وفي هذا السكون المهيب، بُني الكون على نغمة الطاعة، وسارت الذرات والكواكب في موكب الأمانة، لكن الإنسان… وحده اختار أن يحملها.
وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: ﴿قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ على قولين:
أن القول حقيقي، أي أن الله أنطق السماء والأرض فقالتا ذلك حقيقة. وهذا هو ظاهر النص، وهو قول جمهور السلف.
أن القول مجازي، والمراد به سرعة استجابتهما لأمر الله وانقيادهما لمشيئته، كما يقال: "الجدار يقول كذا"، أي يدل عليه. وهذا قول بعض المفسرين.
والراجح – والله أعلم – هو القول الأول، لأنه ظاهر النص، والأصل في النصوص الشرعية أن تحمل على ظاهرها ما لم يصرفها عن ذلك دليل. وليس هناك ما يمنع من أن ينطق الله السماء والأرض، فهو القادر على كل شيء.
يقول الإمام ابن كثير: "أي: أجابتا وانقادتا لأمره تعالى، واستجابتا لمشيئته، وسارعتا إلى طاعته".
(ابن كثير، "تفسير القرآن العظيم"، ج/7، ص 156)
ويقول الإمام الطبري: "فأجابتا: أتينا ربنا طائعين لأمرك، منقادين لمشيئتك، فنحن نأتمر لأمرك، وننقاد لمشيئتك"
(الطبري، "جامع البيان في تأويل القرآن"، ج/21، ص 439)
من المشاهد المؤثرة التي تصور قنوت الكون وخضوعه لله، مشهد شهادة أعضاء الجسد على صاحبها يوم القيامة. قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
النور: 24
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
يس: 65
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
فصلت: 21
هذه الآيات الكريمة تصور مشهدًا عجيبًا من مشاهد يوم القيامة، حيث تنطق أعضاء الجسد وتشهد على صاحبها بما عمل في الدنيا. وهذا يدل على أن هذه الأعضاء تتمتع بنوع من الوعي والإدراك، وأنها تحفظ ما يصدر عنها من أعمال، وستشهد به يوم القيامة.
والمشهد يتضمن حوارًا بين الإنسان وأعضائه، حيث يستنكر الإنسان شهادة أعضائه عليه، ويسألها: ﴿لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾؟ فتجيبه بأن الله أنطقها، وأنه هو الذي أنطق كل شيء.
وقد ورد في السنة النبوية تفصيلٌ لهذا المشهد، ففي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب، ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى. قال: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني. قال: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا. قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكن وسحقًا، فعنكن كنت أناضل»"
(مسلم، "صحيح مسلم"، كتاب الزهد والرقائق، حديث رقم (2969)
هذا المشهد يثير عدة تساؤلات فلسفية وعلمية:
هذه التساؤلات وغيرها تفتح آفاقًا واسعة للتأمل في طبيعة الوعي الكوني، وعلاقة الإنسان بجسده والكون من حوله. وكم جعلتني هذه التساؤلات حائرا متأملا باحثا عن مراد الله سبحانه وتعالى منها وما السر الذي وضعه في هذه الأعضاء حتى تحتفظ بهذه الذاكرة التي تشهد ضد صاحبها.
من مظاهر قنوت الكون وخضوعه لله، أن الإسلام بمعناه الواسع - وهو الاستسلام لله والانقياد لأمره - هو دين الكون جميعًا. قال تعالى:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
آل عمران: 19
فالكون كله مسلم لله بهذا المعنى، كما قال تعالى:
﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
آل عمران: 83
والإسلام بهذا المعنى العام ينقسم إلى قسمين:
وهو استسلام جميع المخلوقات لقوانين الله الكونية وسننه في الخلق، وهذا النوع من الإسلام لا يتخلف عنه أحد، فالكافر والمؤمن، والإنسان والحيوان، والنبات والجماد، كلهم مستسلمون لقوانين الله الكونية، خاضعون لسننه في الخلق.
وهو استسلام المكلفين لأوامر الله الشرعية ونواهيه، وهذا النوع من الإسلام خاص بالمكلفين من الإنس والجن، وهو محل الابتلاء والاختبار، ومناط الثواب والعقاب.
يقول الشيخ السعدي في تفسيره (أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل).
(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان)
وهذا التقسيم يعكس وحدة القوانين الإلهية في الكون، وأن الإسلام - بمعناه الواسع - هو النظام الذي يحكم الكون كله، من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات.
وهذه النظرة الشاملة للإسلام كدين للكون كله تفتح آفاقًا واسعة لفهم العلاقة بين الدين والعلم، وبين الإنسان والكون، وتؤسس لرؤية تكاملية للوجود تتجاوز الانقسامات والثنائيات.
الإيمان بقنوت الكون وخضوعه لله يؤدي إلى انسجام المؤمن مع إيقاع الكون، ودخوله في سمفونية العبادة الشاملة التي تعزفها المخلوقات جميعًا. وهذا الانسجام له آثار إيمانية وتربوية عميقة في حياة المسلم، منها:
عندما يدرك المؤمن أن الكون كله قانت لله، خاضع له، يشعر بالوحدة والانسجام مع هذا الكون، ويزول عنه الشعور بالغربة والوحشة. فهو ليس وحيدًا في هذا الكون، بل هو جزء من منظومة كونية متكاملة، كلها تسبح بحمد الله وتخضع لأمره.
إن المؤمن الحق هو من يعيش مع الكون في حالة من الانسجام والتناغم، فيشعر بنبض الحياة في كل ذرة من ذرات الوجود، ويدرك أن الكون كله يشاركه في عبادة الله وتمجيده.
عندما يدرك الإنسان أن الكون كله قانت لله، وأنه مجرد جزء صغير من هذا الكون، يتواضع ويكسر غروره ويدرك حقيقة مكانته في هذا الوجود. فهو ليس سيد الكون المطلق، بل هو خليفة الله في الأرض، مستخلف فيها، مؤتمن عليها، ومسؤول عن عمارتها.
عندما يتأمل المؤمن في قنوت الكون وطاعته المطلقة لله، يقتدي به في هذه الطاعة، ويستحي أن يكون هو الوحيد العاصي المتمرد على أمر الله، في وقت يطيع فيه الكون كله أوامر الله ويخضع لها.
عندما يدرك المؤمن أن الكون كله منقاد لأمر الله ومشيئته، يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم أمره لله، ويثق بحكمته وعدله. فهو يعلم أن كل ما يجري في هذا الكون من أحداث إنما هو بإذن الله وحكمته، وأن الكون كله يسير وفق نظام إلهي دقيق.
يقول ابن القيم "فمن رضي بالله ربه، ورضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته، فذلك أولُ منازل الرضا؛ فهو الذي يرضى بقضائه وقدره في كل حال، فيستوي عنده ما أعطى الله وما منع، ما أصاب وما أخطأه، ويركن قلبه إلى حكمة الله في خلق الكون والحكم فيه."
(ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين، الجزء الثاني، فصول في منزل الرضا)
عندما يتذكر المؤمن قصة عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال، وإبائها حملها، وحمل الإنسان لها، يشعر بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ويسعى لأداء هذه الأمانة على الوجه المطلوب.
إن الإنسان المؤمن يعيش مأخوذاً بهذه الحقيقة الكبرى: أنه الكائن الوحيد الذي حمل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها. وهذا الإحساس يسكب في روحه العظمة والتفرد، ويشعره بالمسؤولية الجسيمة في الوقت ذاته.
الكون ليس مادة صماء، بل كائن مسبح بحمد الله.
الكون يتحدث بلغته الخاصة لمن يحسن الإنصات.
في الكون دروس وعبر لمن يتأمل.
المؤمن الحق هو من يعيش مع الكون في حالة تناغم وانسجام، فيشارك السماوات والأرض والجبال والأشجار والدواب والطير في تسبيحها لله، وخضوعها له، وشهادتها بوحدانيته.
لسيد حسين نصر نظرة عميقة حول الأزمة البيئية كانعكاس لأزمة روحية: "إن ما يُضرب من بلاءٍ على البيئة ما هو في الواقع إلا إسقاط خارجي للحرمان الداخلي الذي يعانيه باطن الإنسان الذي تكمن أفعاله وراء الأزمة البيئية." "لقد ذكرنا بوضوح أن الأزمة البيئية هي انعكاس خارجي لمشكلة داخلية، ولا يمكن حلها دون ولادة روحية جديدة للإنسان الغربي." "لا أمل في العيش في انسجام مع تلك الظاهرة الإلهية العظيمة التي هي الطبيعة البكر، مع البقاء غافلاً غير مكترث بمنبع تلك الظاهرة سواء ما كان وراء الطبيعة أو في صميم كينونة الإنسان." "إن أحد الأسباب الرئيسة لعدم قبول البُعد الروحي للأزمة البيئية هو استمرار العلميّة (scientism) التي تواصل تقديم العلم الحديث ليس كمنهج معين لمعرفة الطبيعة، بل كفلسفة كاملة وشمولية تحصر جميع الواقع ضمن الحيز المادي وترفض أي إمكانية لوجهة نظر غير علموية."
(سيد حسين نصر، "الإنسان والطبيعة")
لم يُخلق الكون ليُستنزف، ولا الأرض لتُستعبد، ولا الجبال لتُفتّت، بل خُلقت كل ذرة فيه تسبّح بحمد ربها، خاشعة في محراب الوجود. لكن حين نسي الإنسان أن الكون مسبّح، تحوّل من أمين إلى معتدٍ، ومن خليفة إلى مُفسد، فاضطربت الموازين، واهتزّت البيئات، واختنق الهواء بظلم الجحود. فهل نرجع؟ هل ننصت ثانيةً لصوت الجبال وهي تسبّح؟ للأنهار وهي تسجد؟ للشجر وهو يركع؟ إن شفاء الأرض يبدأ من شفاء القلوب، حين نُعيد للكون قداسته، ونعود نحن… إلى مقام الأمانة.
يفتح مفهوم قنوت الكون آفاقًا واسعة للحوار بين العلم والدين، وللتفاعل بين الرؤية القرآنية للكون والاكتشافات العلمية المعاصرة. وفيما يلي بعض الجوانب التي يمكن من خلالها قراءة قنوت الكون في ضوء العلم المعاصر:
يكشف العلم المعاصر أن الكون يسير وفق قوانين فيزيائية ثابتة، مثل قانون الجاذبية، وقوانين الديناميكا الحرارية، وقوانين الكهرومغناطيسية، وغيرها. وهذه القوانين تحكم سلوك المادة والطاقة في الكون، من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات. وهذا يتوافق مع مفهوم قنوت الكون، أي خضوعه لأوامر الله وقوانينه.
يقول الفيزيائي بول ديفيز: "لقد أظهرت اكتشافات العلم الحديث أن الكون يسير وفق قوانين في غاية الدقة والتناسق، بحيث يبدو وكأنه مصمم بعناية فائقة. وهذا ما دفع العديد من العلماء إلى الإيمان بوجود عقل مدبر وراء هذا الكون"
(بول ديفيز، "عقل الإله")
اكتشف العلماء وجود مجموعة من الثوابت الكونية، مثل ثابت الجاذبية، وثابت بلانك، وسرعة الضوء، وغيرها. وهذه الثوابت مضبوطة بدقة متناهية، بحيث لو تغيرت قيمة أي منها بنسبة ضئيلة جدًا، لما أمكن وجود الحياة في الكون. وهذا الضبط الدقيق للثوابت الكونية يشير إلى قنوت الكون وخضوعه للنظام الإلهي الدقيق.
يقول الفلكي فريد هويل: «تفسير الفطرة السليمة للحقائق يقترح أن ذكاءً فائقًا قد تداخل في الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء، وأنه لا توجد قوى عمياء تستحق الذكر في الطبيعة.»
(فريد هويل، "الكون الذكي")
طرحت فيزياء الكم نظريات جديدة حول طبيعة الوعي والإدراك، وعلاقتهما بالمادة. فبعض نظريات الفيزياء الكوانتية ترى أن الوعي ليس مجرد نتاج للعمليات الكيميائية والكهربائية في الدماغ، بل هو ظاهرة كونية أساسية، موجودة في كل شيء، وإن اختلفت درجاتها ومستوياتها. وهذا يتوافق مع مفهوم الوعي الكوني الذي يشير إليه القرآن.
تكشف الدراسات البيولوجية المعاصرة عن وجود ذكاء طبيعي في الأنظمة البيولوجية، من الخلايا البسيطة إلى الكائنات المعقدة. فالخلايا تتواصل فيما بينها، وتتخذ قرارات، وتتكيف مع البيئة المحيطة، وتسعى للبقاء والتكاثر. وهذا الذكاء الطبيعي يمكن اعتباره نوعًا من الوعي البسيط، الذي يتجلى فيه قنوت المخلوقات وخضوعها للنظام الإلهي.
"الخلية الحية هي كيان ذكي، تحت المجهر، يمكننا أن نلاحظ كائناً مجهرياً مفترساً وحيد الخلية وهو يفحص فريسته من مسافة. يمكن للهدبي بعد ذلك أن يختار خلية ميكروبية محددة، ويتوقف، ثم ينقض على فريسته ويلتقطها في غضون ثانية واحدة. تنسيق هذا النشاط يشبه مشاهدة قطة تصطاد عصفوراً على العشب، لكنه يحدث داخل حدود خلية واحدة."
فورد، بريان ج. (2017). الذكاء الخلوي: الظواهرية المجهرية وحقائق الكينونة. مجلة التقدم في البيوفيزياء والبيولوجيا الجزيئية
رغم التوافق بين مفهوم قنوت الكون والاكتشافات العلمية المعاصرة، إلا أن هناك عدة تحديات تواجه التفسير العلمي لقنوت الكون، منها:
المنهج العلمي محدود بدراسة الظواهر المادية القابلة للقياس والتجريب، في حين أن قنوت الكون يشمل جوانب روحية ومعنوية لا يمكن قياسها بالأدوات العلمية. ولذلك، فإن التفسير العلمي لقنوت الكون سيظل محدودًا ومقتصرًا على الجوانب المادية منه.
يقول الفيلسوف كارل بوبر: "من المهم إدراك أن العلم لا يقدّم أيّة إجابات حول الأسئلة الكبرى – حول ألغاز الوجود، أو حول مهمّة الإنسان في هذا العالم.»"
Karl R. Popper, Natural Selection and the Emergence of Mind
ما زال الوعي والإدراك من أكثر الظواهر غموضًا وتحديًا للتفسير العلمي. فرغم التقدم الكبير في علوم الأعصاب والذكاء الاصطناعي، إلا أن العلم ما زال عاجزًا عن تفسير كيف تنشأ التجربة الواعية من العمليات الكيميائية والكهربائية في الدماغ. وهذا يمثل تحديًا كبيرًا لتفسير الوعي الكوني الذي يشير إليه مفهوم قنوت الكون.
يقول عالم الأعصاب ديفيد تشالمرز: "مشكلة الوعي الصعبة هي مشكلة كيف وصف العمليات الفيزيائية في الدماغ يمكن أن يعطينا تجربة ذاتية. هذه المشكلة تمثل تحديًا كبيرًا للعلم، وربما لا يمكن حلها في إطار النموذج المادي للكون"
Chalmers, D. J. (1996). "The Conscious Mind"
هناك تنافر وعدم اتساق بين النماذج العلمية المختلفة التي تفسر الكون، مثل النظرية النسبية العامة ونظرية الكم. وهذا التنافر يجعل من الصعب بناء نموذج علمي متكامل يفسر قنوت الكون وخضوعه لله.
يقول الفيزيائي ستيفن هوكينج: "التحدي الأكبر الذي يواجه الفيزياء المعاصرة هو التوفيق بين النظرية النسبية العامة، التي تفسر الجاذبية والكون الكبير، ونظرية الكم، التي تفسر العالم الذري والجسيمات الأولية. فهاتان النظريتان، رغم نجاحهما الكبير، متنافرتان ولا يمكن الجمع بينهما في إطار نظري موحد".
(ستيفن هوكينج، "تاريخ موجز للزمن"، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008، ص 173)
التيار الغالب في العلم المعاصر يميل إلى التفسير المادي للوعي، أي اعتباره نتاجًا ثانويًا للعمليات الدماغية. وهذا التفسير لا يتوافق مع مفهوم الوعي الكوني الذي يشير إليه قنوت الكون، والذي يرى الوعي ظاهرة أساسية وأصيلة في الكون.
رغم هذه التحديات، يظل الحوار بين العلم والدين مثمرًا وضروريًا، لأنه يفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والكون، وبين المادة والروح، وبين الخالق والمخلوق.
كلما تأملت في آيات الكون وتدبرت علاقة المخلوقات بخالقها، وجدت نفسي في حيرة أمام عظمة هذا الوعي الكوني المدهش. وما زاد حيرتي تلك الاكتشافات العلمية المذهلة التي كشفت لنا في السنوات الأخيرة أسراراً عن كائنات كنا نظنها صماء لا تفقه شيئاً.
ها هي الأشجار، التي طالما مررت بجوارها دون أن أعيرها اهتماماً خاصاً، تكشف عن عوالم من التواصل والعطاء والنظام تحت أقدامنا مباشرة. تذكرتُ حينها قول الله تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾، وتساءلت: ألم يُخبرنا القرآن عن هذا كله منذ أربعة عشر قرناً؟
في غابات كندا الشاسعة، قضت عالِمة الإيكولوجيا سوزان سيمارد سنوات طويلة تراقب الأشجار وتدرس حياتها السرية. لم تكن تتوقع يوماً ما وجدته - شبكة اتصالات معقدة تحت الأرض تربط بين الأشجار عبر خيوط فطرية شفافة، أطلقت عليها اسم "شبكة الخشب الواسعة" أو "إنترنت الغابة".
في صباح مشمس من عام 2021، نشرت سيمارد نتائج أبحاثها المذهلة في مجلة Nature، موثقةً كيف ترسل الأشجار القديمة (الأمهات) الكربون والمغذيات عبر هذه الشبكات الخفية لتُطعم الشتلات الصغيرة أثناء الجفاف والشدائد. والأكثر إدهاشاً أنها اكتشفت أن هذه الأشجار ترسل "تحذيرات" للأشجار المجاورة عند مهاجمتها من الآفات، فتستجيب الأشجار الأخرى بتقوية دفاعاتها الكيميائية.
المصدر: "العثور على الشجرة الأم: اكتشاف حكمة الغابة". يقدم هذا الكتاب سردًا شخصيًا وعلميًا لرحلة سيمارد واكتشافاتها، بما في ذلك تفاصيل عن الشبكات الفطرية ودور "الأشجار الأم".
وجدت نفسي أتساءل: ألا يشبه هذا معنى القنوت - الانقياد والطاعة والاستجابة؟ هل يمكن أن تكون هذه الشبكات الخفية هي وسيلة تلك الأشجار للتسبيح والقنوت وتأدية دورها في منظومة الخلق؟
في أعماق الغابة، تتحدث الأشجار في صمت، تمد جذورها كما لو كانت أيادي خفية، تُطعم، تُحذّر، وتحنو. ليست الأشجار مجرد أعمدة خشبية صامتة، بل كائنات واعية بطريقتها، تعرف كيف تنحني لقوانين الخلق، وكيف تؤدي أدوارها في منظومة دقيقة لا خلل فيها. ﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾
كنت أقرأ ذات مساء عن نظرية عالم الأعصاب جوليو تونوني التي أطلق عليها "نظرية المعلومات المتكاملة"، وأخذت أتأمل في أفكاره الجريئة. يطرح تونوني في بحثه المنشور عام 2022 فكرة مدهشة: الوعي ليس مقصوراً على المخلوقات المعقدة كالبشر، بل ربما يكون خاصية أساسية من خصائص الكون، موجودة بدرجات متفاوتة في كل المخلوقات، حتى في أبسط أشكالها.
أليس هذا ما أخبرنا به الله تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾؟ فكل مخلوق - مهما بدا لنا بسيطاً - يمتلك قدراً من "العلم" يمكنه من أداء دوره في سيمفونية الوجود.
قرأت كيف أثبتت تجارب تونوني أن أنظمة بسيطة مثل شبكات الخلايا العصبية تظهر خصائص "تكامل المعلومات" - وهي إحدى علامات الوعي الأولي. كنت أفكر: إذا كانت هذه الأنظمة البسيطة تمتلك قدراً من الوعي يمكنها من "معالجة المعلومات" والاستجابة لها، فكم هو أعظم وأشمل ذلك الوعي الذي أودعه الله في مخلوقاته، والذي يمكنها من القنوت له سبحانه؟
في رحلتي البحثية، استوقفتني دراسات عالم الفيزياء ألبرت لاسلو باراباسي. كان باراباسي يتتبع سلوك النظم المعقدة - من أسراب الطيور التي تطير في تشكيلات متناسقة مذهلة، إلى حركة الجزيئات في الخلية الحية. ما وجده في عام 2023 كان مثيراً للدهشة: هذه الأنظمة المختلفة تتبع قوانين تنظيمية متشابهة بشكل مدهش!
(Barabási, A.-L. (2016). Network Science. Cambridge University Press.)
رأيت صور تشكيلات الطيور المهاجرة في أبحاث باراباسي، وكيف تنساب بتناغم مذهل دون قائد ظاهر، وتذكرت قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾. فسبحان من ألهم هذه المخلوقات قنوتها وانقيادها لنظام بديع يتجاوز إدراكنا!
يصف باراباسي في بحثه كيف تظهر خلايا الجسم البشري سلوكاً يشبه سلوك النمل في المستعمرة - كل خلية تعرف دورها بالضبط، وتتواصل مع الخلايا الأخرى بأنماط معقدة من الإشارات الكيميائية، دون أن تحتاج إلى "مركز قيادة" يخبرها بما تفعل. إنها أشبه بأوركسترا هائلة، كل عازف فيها يعرف نوتته تماماً، فتنتج سيمفونية متناغمة من غير قائد مرئي.
عندما أقرأ هذه الاكتشافات العلمية المدهشة، أجدني أتأمل في آيات الله - المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه. كيف أخبرنا القرآن منذ قرون عن هذا القنوت الكوني الشامل، وها هو العلم اليوم يكشف لنا طرفاً من أسراره!
أتذكر كلمات الفيزيائي فريمان دايسون التي كتبها في مذكراته: "كلما تعمقت في دراسة الطبيعة، وجدتها أكثر تعقيداً وذكاءً مما كنت أتخيل. لقد غيرت البحوث العلمية نظرتي للكون جذرياً... من كونه آلة عمياء إلى كونه شبكة ذكية من العلاقات والتواصل".
أعود إلى كلمات الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾، وأتساءل: ما أسرار هذا الكون المسبح القانت التي لم نكتشفها بعد؟ كم من المعاني العميقة ما زالت مخبأة في آيات الله التي نقرأها كل يوم؟
هذه الاكتشافات ليست سوى قطرات في محيط الأسرار الكونية. لكنها تمنحنا لمحات عن عظمة الخالق وبديع صنعه في خلقه. وكأنها تهمس في آذاننا: ألا تنضم إلى هذه السيمفونية الكونية؟ ألا تشارك هذه المخلوقات قنوتها وتسبيحها للخالق العظيم؟
عزيزي القارئ... بعد أن تأملنا معاً في هذا الفصل معاني القنوت الكوني وأبعاده، ها نحن نقف عند نهايته لنفتح معاً آفاقاً جديدة للتفكر والتفاعل. خذ معي لحظة لتتخيل: كيف سيتغير عالمك إذا استشعرت حقاً أن كل ذرة من ذرات الكون حولك قانتة لخالقها، مستسلمة لأمره، منفذة لمشيئته؟
أقدم لك هنا بعض التأملات والأنشطة التي عشتها شخصياً وأشاركها معك لعلها تكون عوناً في رحلتك لفهم أعمق لمعنى القنوت الكوني...
في صباح أحد الأيام، جلستُ في شرفة منزلي أتأمل المطر الهادئ وهو ينهمر على الأشجار والأرض من حولي. تساءلت: هل هذه قطرات مطر عادية أم رسائل من السماء إلى الأرض؟
سؤال للتأمل: اختر ظاهرة طبيعية تراها يومياً (شروق الشمس، هبوب الرياح، نمو النباتات)، وتأمل فيها بعمق. كيف يمكن أن تكون هذه الظاهرة تعبيراً عن القنوت؟ اكتب تأملاتك في دفتر خاص واحتفظ به.
في الآية الكريمة: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، نجد استجابةً فورية من السماء والأرض.
سؤال للتأمل: تأمل في حياتك الشخصية، كيف تختلف استجابتك لأوامر الله الشرعية عن استجابة الكون لأوامره الكونية؟ ما الذي يمكنك تعلمه من طواعية المخلوقات غير المكلفة؟
أذكر أنني وقفت ذات مرة أمام جبل شاهق، وتأملت عظمته وثباته، ثم تذكرت كيف أبى هذا الجبل حمل الأمانة وأشفق منها.
سؤال للتأمل: ما هي "الأمانة" في حياتك اليومية؟ هل هي مسؤولياتك تجاه أسرتك، أم عملك، أم عبادتك، أم رسالتك في الحياة؟ كيف يمكنك أن تحمل هذه الأمانة بوعي أكبر؟
خصص أسبوعاً لمراقبة مظاهر القنوت في محيطك اليومي. من تجربتي، قمت بتدوين ملاحظات عن انتظام شروق الشمس وغروبها، دقة مواعيد تفتح بعض الزهور في حديقتي، انتظام نبضات قلبي دون تدخل واعٍ مني.
في نهاية الأسبوع، تأمل في القائمة التي جمعتها وتفكر: كم من هذه المظاهر يحدث دون أي جهد مني، وكم منها يعمل بانتظام مذهل لو تركته دون تدخل بشري؟
اختر مكاناً طبيعياً هادئاً (حديقة، شاطئ، غابة). اجلس وحدك واختر مخلوقاً تراه (شجرة، صخرة، نهر). تخيل أنك تسأله: "كيف تعبر عن قنوتك لله؟ ما الذي يمكنني تعلمه منك؟"
صدقني، قد تندهش من الإلهامات والأفكار التي تأتيك في هذه اللحظات. لست أتحدث عن التخاطب الحرفي، لكن عن انفتاح قلبك على رسائل الكون من حولك.
أثناء صلاتك القادمة، استشعر معنى قنوت جوارحك لله... جسدك يقف، يركع، يسجد، استجابةً لأمر الله، تماماً كما تستجيب المخلوقات لأوامره الكونية. راقب كيف تنتقل أعضاؤك من وضع لآخر باستجابة طوعية، واستشعر انضمامك إلى موكب الكون المسبح القانت.
جربت شخصياً تنظيم يومي وفق إيقاعات الطبيعة - الاستيقاظ مع الفجر، والنوم بعد العشاء بوقت قصير. الانسجام مع دورات الطبيعة قد يحسن صحتك ويعمق شعورك بالترابط مع الكون.
اقتراح تطبيقي: حاول لمدة أسبوع أن تنظم يومك بما يتوافق مع الإيقاعات الطبيعية للكون، واكتشف كيف يؤثر ذلك على حالتك الجسدية والنفسية والروحية.
أتذكر مرة أنني تأخرت عن الصلاة بسبب انشغالي بأمور الدنيا، وفي تلك اللحظة رأيت عصفوراً يغرد في وقت محدد كعادته كل يوم، فشعرت بالخجل... العصفور لا يتأخر عن تسبيحه، فكيف أتأخر أنا عن صلاتي؟
اقتراح تطبيقي: اختر عبادة أو طاعة تجد صعوبة في الالتزام بها، واجعلها مقترنة بملاحظة مظهر من مظاهر القنوت الكوني (مثلاً: أذكاري الصباحية مع شروق الشمس، صلاة الضحى مع تفتح الزهور).
إن إدراكنا لقنوت الكون يجب أن يغير طريقة تعاملنا مع البيئة. بدأت شخصياً بتقليل النفايات البلاستيكية في منزلي، وزرع الأشجار في بيتي، والحفاظ على الماء، مستشعراً أن هذه المخلوقات التي أتعامل معها تسبح بحمد الله وتشهد بتوحيده.
اقتراح تطبيقي: اتخذ خطوة عملية واحدة للتعامل مع البيئة بطريقة أكثر مسؤولية واحتراماً، مستلهماً من فهمك لقنوت المخلوقات من حولك.
أختم هذا القسم التفاعلي بتجربة شخصية أثرت في: قبل سنوات، كنت في رحلة صحراوية، وفي ليلة صافية مليئة بالنجوم، استلقيت على الرمال أتأمل السماء. شعرت للحظات أنني جزء صغير من سيمفونية كونية هائلة - النجوم بإشعاعها، والرمال بصمتها، والرياح بهمساتها، وأنا بأنفاسي... كلنا نعزف لحناً واحداً لخالق واحد.
في تلك اللحظة، فهمت معنى قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ فهماً يتجاوز العقل إلى القلب.
أتمنى لك، عزيزي القارئ، أن تعيش لحظات من هذا النوع، تستشعر فيها انتماءك إلى هذا الوجود المسبح القانت، وأن تكتشف معنى جديداً لوجودك فيه.
في ختام هذا الفصل عن "قنوت الكون وخضوعه لله"، يمكننا استخلاص عدة نتائج وخلاصات:
أكد القرآن الكريم أن الكون كله قانت لله، خاضع له، مستسلم لأمره. قال تعالى: ﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ [الروم: 26]. وهذه الحقيقة ليست مجرد استعارة أدبية أو تعبير مجازي، بل هي حقيقة واقعية تعيشها كل ذرة من ذرات هذا الوجود.
الكون ليس مجرد مادة صماء أو آلة ميكانيكية تسير وفق قوانين عمياء، بل هو كائن حي واعٍ، يتمتع بدرجات متفاوتة من الوعي والإدراك. وهذا الوعي الكوني يتجلى في قدرة المخلوقات على التسبيح والقنوت والسجود لله، وعلى فهم الخطاب الإلهي والاستجابة له.
الإنسان الذي ينسجم مع قنوت الكون، ويشارك المخلوقات في تسبيحها وقنوتها لله، يعيش في سلام وسكينة، ويجد راحة نفسية عميقة. أما الإنسان الذي يخرج عن هذا الانسجام الكوني، ويتمرد على أمر الله، فإنه يعيش في قلق واضطراب.
تمتع الإنسان بالإرادة الحرة والقدرة على الاختيار جعله مؤهلًا لحمل الأمانة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن تحملنها وأشفقن منها. وهذه المسؤولية العظيمة تقتضي من الإنسان الوعي والحذر والاجتهاد في أداء الأمانة على الوجه المطلوب.
مفهوم قنوت الكون يمكن أن يكون جسرًا للتكامل بين العلم والدين، وللتوفيق بين الرؤية القرآنية للكون والاكتشافات العلمية المعاصرة. فالقوانين الفيزيائية الثابتة، والثوابت الكونية العجيبة، والذكاء الطبيعي في الأنظمة البيولوجية، كلها تشير إلى قنوت الكون وخضوعه لله.
في عصر الأزمات البيئية والاحتباس الحراري وتلوث البيئة، يصبح الحوار بين الإنسان والكون ضرورة حضارية ملحة. وهذا الحوار يقتضي احترام قدسية الكون، والاستماع لصوته، والتعلم من حكمته، والمشاركة في تسبيحه.
إن قنوت الكون وخضوعه لله ليس مجرد موضوع ديني أو فلسفي، بل هو رؤية شاملة للوجود، تؤسس لعلاقة متوازنة بين الإنسان والكون، وبين المادة والروح، وبين الخالق والمخلوق. وهذه الرؤية التكاملية هي ما يحتاجه العالم اليوم، في ظل الانقسامات والصراعات والأزمات التي تهدد مستقبل الإنسانية.
وسنتناول في الفصل القادم موضوع "سجود الكون وخشوعه لله"، وهو جانب آخر من جوانب وعي الكون وإدراكه، يكمل ما تناولناه في هذا الفصل عن قنوت الكون وخضوعه لله.
والله أعلم وأحكم